ورَد في الحديث أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
"ما غِرتُ على امرأةٍ إلا دون ما غرتُ على مارية، وذلك أنها كانت جميلةً من النساء، جَعْدةً، وأُعجِبَ بها رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم" اهـ.
غِرت عليه، هو في الاستعمال الفصيح يتعدى ب" على" وهو بمعنى: غِرتُ منه، في لسان العوامّ.
ومعنى قولها " جَعدَة": أنها متماسكة البدن، ليست مترهّلة ولا مُسترخية.
وفي " لسان العرب لابن منظور ":
الجَعد إذا ذُهِبَ به مَذهب المدح فله معنيان مُستحبَّان :
أحدهما: أن يكون معصوب الجوارح شديد الأسْر والخَلق غير مُسترخٍ ولا مضطرب.
والثاني : أن يكون شَعره جَعدا غير سَبْط ( أي غير مسترسل) لأن سُبوطة الشَعر هي الغالبة على شُعور العجم من الروم والفرس، وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب، فإذا مُدح الرجل بالجعد لم يخرج عن هذين المعنيين.
وأما الجَعد المذموم فله أيضا معنيان كلاهما منفيٌّ عمن يُمدَح:
أحدهما: أن يقال رجل جَعد، إذا كان قصيرا متردد الخَلق.
والثاني: أن يقال رجل جعد، إذا كان بخيلا لئيما، وإذا قالوا رجل جعد السبوطة فهو مدح، إلا أن يكون قَطِطًا مُفَلْفَلا كشعر الزنج والنوبة فهو حينئذ ذمّ. اه.
وثمة شيء أحبه كثيرا في أحاديث عائشة رضي الله عنها، بل هي صفة ملاحظة في طبائع هذا الجيل، وهي طرح التكلف ونبذُ التصنع، وعدم البراءة من الطبع الإنساني المغروز في جِبِلته بحكم البلاء الإلهي، فهي هنا مثلا لا تدّعي أنها لا تغار أو ترمي مَن يجد ذلك في نفسه من النساء بقلة الإيمان أو ضعف التوكل على الله كما يشيع في خطاب كثير من الإسلاميين، بل جرَت على مقتضى طبائع النساء، وهذا ليس مذموما فيهنّ أصلا، وإنما المذموم هو الفعل الناشئ المترتب عن هذه الغيرة، كالغيبة والنميمة أو السعي في الإيذاء.
تماما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي نصحَه فقال له" لا تغضب" فمن البعيد أنه ينهاه عن التلبُّس بنفس الغضب الذي هو هيَجان الدم وانتشاره في العروق عند وجود الأمر غير الملائم، فإن النهي عن هذا هو من التكليف بالمُحال، لأنه ليس في طبيعة أحد من الناس الانكفاف التام عن هذه المشاعر الفِطرية، إذن فالمعنى هو النهي عن إتيان مُسبَّبات الغضب، كالانتقام والإيذاء ومجاوزة الحد، فهو حينئذ مجاز مرسل علاقته السببية، أو المجاورة.
والله أعلم.