هل هذا ما صرنا إليه؟
هل أسرتنا الصور لهذه الدرجة حتى ألهتنا عن الاستمتاع بما نحب؟
أم أن المتعة صارت بصرية وحسب حتى صار البيستاشيو فاقع اللون ألذ وأطعم من الفستق الباهت؟
في زمن النكهات الصناعية صرنا نأكل بعيوننا لا بأفواهنا.
نتحدث بأصابعنا على لوحات المفاتيح، لا بأصواتنا التي تحمل دفء انفاسنا وأرواحنا.
المهم أن يكون كل ذلك مزينا وصورته جيدة
تخيل أن يظل إنسان يتزين ويضع الأصباغ التي تغير شكله تماما لكي يحب شكله ويعشق صورته حتى ينسى شكله الحقيقي وينسى أن هذا مجرد قناع وتلك مجرد صورة
نحن ندرك، في قرارة أنفسنا، أن ما يلمع على شاشاتنا ليس ذهباً خالصاً.
نعرف أن هناك تجميلاً.. إخراجاً.. فلترة للواقع.
ما يفزعني هو تحول هذه الفلترة من مجرد تجميل للصورة إلى أسلوب حياة، إلى همٍّ أكبر يشغلنا عن حقائق الأشياء.
والأدهى أن يتسلل ذلك الوباء إلى علاقاتنا لتبدو مثالية في صور منسقة
بينما تخفي خلفها فراغاً صامتاً
فراغ سيصل لا محالة إلى مشاعرنا حين نختزلها في رموز تعبيرية باردة
وكأن قلباً رقمياً يمكن أن يحل محل دفء نظرة أو صدق دمعة.
اللحظات العائلية، تلك التي كانت ملاذنا الآمن، تحولت تدريجيا إلى جلسات تصوير تصوير مرهقة، ننسى فيها أن نتحدث ونضحك ونعيش اللحظة، منشغلين بالبحث عن اللقطة "المثالية" التي سنشاركها مع غرباء افتراضيين.
حتى الحزن، صار له "فلتر"!
نكتب تدوينات باكية متألمة، ربمااستجداءً لمواساةٍ رقمية أو تعليق يزيد رصيدنا من الاهتمام الافتراضي وننسى في خضم ذلك أن الحزن الحقيقي، الذي يعتصر القلب لا مكان له في هذا المسرح الرقمي.
حتى أفكارنا لم تسلم.
صرنا نستهلك آراءً جاهزة معلبة، كوجباتٍ فكرية سريعة لا تحتاج إلى تمحيص. "تريند" جديد كل يوم
رأي رائج نتبناه لنشعر أننا بداخل الأحداث
فكرة منتشرة لابد أن يكون لنا قول فيها حتى لو لم نكن أهلا للحديث حولها أصلا
المهم أن لنا حضورا
حتى لو كان زائفا
كل ذلك لم يسلم من الزيف ونريد للطعام أن يسلم
المتوقع طبعا أننا صرنا نأكل بعيوننا أكثر مما نتذوق بقلوبنا.
فلتكن إذا النكهات الصناعية، فالمهم أن تخرج الصورة أنيقة مبهجة
وإن لم تخرج كذلك فالفلتر موجود لا تقلق سيقوم بباقي التزييف لينخر في جوهر الأشياء كالسوس في مهنتي قد يترك ظاهر الضرس يبدو سليما قويا
قشرة براقة لكنها جوفاء سرعان ما تنهار عن إزالة التسوس لتظهر حقيقة الخواء تحتها
لكن الخطر الأكبر هو أن نحب هذا الزيف وندمنه وننسى اللذة الحقيقية
سننسى طعم الفاكهة الطازجة التي نضجت تحت الشمس لتخرج عصارتها النضرة بمجرد الإمساك بها لنكتفي بعصير معلب لا يحوي إلا النكهة التي قد تشبه الأصل لكنها ليست أبدا أصيلة
وهذا الإدمان سيُفسد في النهاية حاسة التذوق الحقيقية لدينا
لا أتحدث هنا عن تذوق الطعام فما كان إلا مدخل للأهم
تذوق الصدق
تذوق العفوية
تذوق العلاقات الأصيلة
تذوق المعاني الحقيقية.
تعود الزائف يجعلنا عاجزين عن تقدير ما هو حقيقي
ثم نبدأ بالتدريج في تصديق أن هذا الزيف اللامع هو كل ما في الحياة.
سننسى دفء العناق الحقيقي، ونقنع بالقلبٍ الرقمي الذي يومض على شاشة.
سننسى عمق الحوار وجهاً لوجه، ونغرق في جدالات سطحية تحت منشورات تافهة.
ألا نشعر بظمأ الروح إلى الأصيل؟
ألا يحن القلب إلى ما هو حقيقي، حتى لو كان بسيطاً، حتى لو كان به بعض النقص؟
تخيل معي لو أننا بقليلٍ من الشجاعة قررنا أن نعيش اللحظة كما هي
بجمالها الخام وبنقصها الذي هو جزءٌ من سحرها.
تخيل لو توقفنا قليلا عن تصوير حياتنا وصرنا نعيشها فعلاً
بنظراتٍ صادقة
بضحكاتٍ لا تحتاج إلى فلتر
بأحاديث تحمل رائحة الإنسان لا رائحة الأسلاك والبلاستيك
تخيل لو بحثنا عن الطعم الحقيقي في كل شيء
في علاقاتنا، في أفكارنا، في طعامنا، في أنفسنا.
ما أعتقده أن هذه الأصالة هي وحدها ما يروي ظمأ الروح
ما يمنح الحياة طعمها الذي لا يُعوّض.
أما النكهة الصناعية، فمهما حاكت الأصل، ستظل دائمًا مجرد نكهة
بلا رائحة
بلا روح
بلا حياة.
وسيظل الفستق أفضل وأنفع وأطعم من البيستاشيو