ومن كان مستوحشًا مع الله بمعصيته إيَّاه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد.
ومن قَرَّتْ عينه به في الدُّنيا، قرَّت عينه به يوم المعاد، فيموتُ العبد على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، ويعود عليه جزاء عمله بعينه، فيتنعم به ظاهرا وباطنا، أو يُعذَّب به ظاهرًا وباطنا، فيكون تنعمه بعمله بحسب كماله ومتابعته وإخلاصه، وبلوغ مرتبة الإحسان فيه، وبحسب تنوعه ؛ فمَن تنوّعت أعماله المُرضِيَةُ لله المحبوبة إليه في هذه الدَّار؛ تنوّعت له الأجور والأقسام الَّتي يتنعم بها، ويلتذ بها في تلك الدَّار ، وكثُرت له بحسب كثرة أعماله هنا، وكان مزيده من تنوُّعها والابتهاج بها والالتذاذ على حسب مزيده من الأعمال وتنوعها في هذه الدار.
فيعودُ على العبدِ حكم عمله هناك ظاهرا وباطنا، فيورثه من الفرحةِ والسُّرورِ واللَّذَّةِ والبهجة والنعيم وقرة العين واستبشار القلب وانشراحه؛ من أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذّه.
وقد جعل الله لكل عمل من الأعمال المحبوبة والمسخوطة أثرا وجزاء، ولذَّةٌ وألمّا يخصُّه لا يشبِهُ أثر العمل الآخَرِ وجزاءه؛ ولهذا تنوّعت لَذَّاتُ أهلِ الجنَّةِ وآلامُ أهلِ النَّار، وتنوع ما فيهما من الطَّيِّبات والعقوبات.
فليست لذَّةُ مَن ضَرَبَ مع كلِّ أهل غنيمة بسهم؛ كَلذَّة من ليس له سهم إلا في نوع واحدٍ منها، ولا ألَمُ مَن ضَرَب في كلِّ معصية مسخوطة لله وعقوبته؛ كألَمِ مَن ضَرَب بسهم واحدٍ في معصية واحدة.
وقد أشار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ كمال ما يُستمتع به من الطَّيِّبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدُّنيا، فرأى قنوا من حشَف معلقًا في المسجد للصدقة، فقال: «إنَّ صاحِبَ هذا يأكُلُ الحَشَفَ يَومَ القِيامةِ»، فأخبر أنَّ جزاءه يكون من جنس عمله، فيُجزَى على تلك الصدقة بحَشَفِ من جنسها.
وهذا الباب يفتح أبوابًا عظيمةً مِن فَهم المعاد، وتفاوتِ النَّاس في الثَّواب والعقاب فيه.
فمنها: خِفَّة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره، فإنَّه بحسب خِفَّة وِزرِه وثقله يكونُ خفيفا أو ثقيلا.
ومنها : استظلاله بظل العرش، أو ضحاؤه للحرّ والشَّمس، إن كان له الأعمال الصَّالحة ما يُظلُّه في هذه الدار من حرّ من المعاصي والشّرك والظلم ؛ استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن، وإن كان ضاحيا هنا للمناهي والمخالفات ضَحَى هناك للحر الشديد.
ومنها : طول الوقوف في الموقف، ومشقته عليه وتهوينه عليه؛ إن طال وقوفه في الصَّلاة ليلا ونهارًا الله، وتحمّل لأجله مشاق العبادات في مرضاته؛ خفَّ عليه هناك، وإن كان هنا في دَعَةٍ وبطالة ونعمة وراحة؛ طال عليه الوقوفُ هناك واشتدَّت مشقته عليه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَأَسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثقيلا}، فمن سَبَّح الله ليلا طويلا لم يكُنْ
ذلك اليوم عليه ثقيلا؛ بل كان أخفَّ شيء عليه.
ومنها : أنَّ ثِقَل ميزانه هناك بحسب ثِقَل الحقِّ هنا؛ لا بحسب مجرد كثرة الأعمال، وإِنَّما يثقُل الميزانُ باتباع الحقِّ وثقله على النَّفس، والصبر عليه، وبذله إذا سُئِله، وقَبولِه إِذا بُذل له، كما قال الصديق في وصيَّته لعمرَ : إِنَّما ثقُلت موازين من ثقُلت موازينه يومَ القيامة باتباعهم الحقَّ وثِقَلِه عليهم، وحُقِّ لميزان يُوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلا.
ابن القيم