كلمات في فقه المرحلة -٢-
تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً للجمهورية.
الحمد لله وصلاة وسلاما على عبده ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن ولاه… أما بعد:
فما إن وقع الإعلان عن تشكيل مجلس الإفتاء، وتعيين الشيخ الرفاعي رئيسا له، حتى تكلم كثيرون عن اعتقاد الشيخ، وأنكروا أن يكون مثله مفتيا، بل بلغ الأمر أن يوصف بأنه: "خبث وضلال مبين"، و "خذلان". ونحو ذلك، ولي مع هذا الموقف وقفات:
الأولى: النظر والتقييم للإنسان إنما يكون بحسب ما غلب عليه، وكان أكثر أمره، لا بتتبع زلاته، وتصيد أخطائه وتطلب عثراته، «"والماء إِذا بلغ قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث" وَالْمُؤمن إِذا رجحت حَسَنَاته وَقلت سيآته فَهُوَ من المفلحين»، «وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الثِّقَة أَنْ لاَ يُخْطِئ وَلاَ يَغْلَطَ وَلاَ يَسْهُوَ». كما قال الإمام الذهبي، ومن أعلى ما جاء في هذا الباب قول الإمام ابن القاسم رحمه الله: «قد يكونُ من غَيرِ أهلِ الأهواءِ، من هُو شرٌّ من أهلِ الأهواءِ».
الثانية: إن الناظر -المنصف- في حال الشيخ أسامة -وفقه الله- يجده عالما من أفاضل علماء الشام، وقد شهد له بذلك الجم الغفير منهم، وهو كذلك من أوائل المجاهدين للنظام بلسانه، ودعمه للثوار أشهر من أن يذكر.
الثالثة: "أهل السنة" عَلَمٌ على من اتبع السلف وكان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا الاتباع لا يتحقق في الأفراد إلا منقوصا، فإن «كل بني آدم خطاء»، وكل يؤخذ من قوله ويرد، ولذا فالرجل يكون فيه من السنة بقدر موافقته لها، ويكون فيه من البدعة بقدر مواقعته لها.
الرابعة: إن إطلاق أهل السنة يضيق ويتسع، بحسب الحال والمقابل، ومن نظر في كلام ابن تيمية مثلا، وجد أنه سمى جيش المماليك "الطائفة المنصورة" لأنهم كانوا في مواجهة التتار، على ما كان بينه وبين المماليك من الخلاف، بل هم من سجنه مرارا وامتحنوه بسبب عقيدته!
الخامسة: ليس للشيخ أسامة -فيما أعلم- امتياز عن غيره من أهل العلم الذين نشأوا على المذهب الأشعري، ومثله في ذلك مثل العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والسبكي، والنووي، والقرافي، وغيرهم من أهل العلم، فما يقال في هؤلاء يقال فيه، والعكس كذلك.
السادسة: أن العاقل من انشغل بجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم -خاصة في أوقات تكالب الأعداء عليهم، لا من انشغل بتفريقهم، ونبش الخلافات بينهم-، ولذا كان من فضائل شيخ الإسلام ابن تيمية التي يدل بها قوله: «والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين، وطلبا لاتفاق كلمتهم اتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد ونحوه، المنتصرين لطريقه».
فإذا كان هذا في زمانه، فماذا يقال في زماننا، ونحن نواجه عدوا كافرا من شتى الملل، ولما نمكن بعد! لا شك أن الانشغال بالمحكمات الواضحات المتفق عليها التي تجمع كلمة المسلمين أولى وأحرى.
السابعة: أن هذه سيرة أهل العلم في القديم والحديث، وأضرب لذلك مثلين:
أولهما من حال ابن تيمية رحمه الله؛ فإنه حصل بينه وبين جماعة من مشايخ عصره خلاف في أمر المعتقد، ومن أبرزهم اثنان: نصر المنبجي، وابن مخلوف المالكي؛ فأما المنبجي فإنه "بلغ ابْن تَيْمِية أَنه يتعصب لِابْنِ الْعَرَبِيّ فَكتب إِلَيْهِ كتابا يعاتبه على ذَلِك فَمَا أعجبه لكَونه بَالغ فِي الْحَط على ابْن الْعَرَبِيّ وتكفيره فَصَارَ هُوَ يحط على ابْن تَيْمِية ويغري بِهِ" كما قال الحافظ ابن حجر، وأما ابن مخلوف فهو الذي حبس ابن تيمية في مصر لما حمل إليها بسبب الفتوى الحموية، وقال له ابن تيمية في مجلس الحكم: "أنت خصمي فكيف تحكم فيَّ؟!"، ومع ذلك فعندما استشار السلطان الناصر ابن تيمية في قتلهم قال: "استفتاني في قتل بعضهم.
قال:… فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، وأنا فهم في حل من حقي ومن جهتي، وسكنت ما عنده عليهم."
فلم يكتف ابن تيمية بإقرارهم على ما هم فيه من عمل، بل لم يوافق السلطان على عزلهم؛ بله قتلهم، وبذل وسعه في الذب عنهم وإقرارهم على أماكنهم -رغم خلافه معهم-
وأما المثال الثاني فهو: الملا محمد عمر -رحمه الله- وعموم الطالبان، فهم في العقيدة ماتريدية ديوبندية، والماتريدية أشد بعدا عن السنة من الأشاعرة، والديوبندية طريقة صوفية غير مرضية، ومع ذلك فهم أمراء الإسلام في أفغانستان، وعلى أيديهم كتب الله من البطولات مالا يخفى، وبهم حفظ الله الإسلام وأهله، وما من حرف يقال في الشيخ أسامة إلا ويقال مثله وأكثر في الطالبان -وفقهم الله-.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على ما يرضيك، وجنبنا أسباب سخطك ومعاصيك، والحمد لله رب العالمين.