.
[حين تُطفأ الأنوار]
مثل كل عام، غربت شمس رمضان، فانفضّ الزحام، وخفّت عن المساجد الأقدام، وسكنت التراويح، وهدأت المآذن، كأن الصوت الذي ملأ الليل ما كان، وكأن العيون التي دمعت قد جفّت، وكأن القلوب التي وجلت قد نَسيت.
لم يكن العجب من ذلك، فما عهد الناس إلا كذلك؛ يقبلون إذا أقبل الجمع، ويدبرون إذا خلا الطريق.
لكن الفوز كلُّ الفوز في قلبٍ عرف ربه، فثبت إذا تفرّق الناس، وأقبل إذا أعرضوا، وتجرّد من مدحهم، فلم يُزِغه ثناؤهم، ولم يُقعده هجْرهم.
فإذا انقضت التراويح، وهدأ صخب الجماعة، وبقي الليل في ظلمته، فأنت هناك.
تستأنس بالخلوة، وتذوق حلاوة الطاعة بعد انفضاض الجمع.
وقد عظمت الشريعة مقام أولئك الأفراد البررة، الملتفتة قلوبهم أبداً إلى محبوبهم، والساعية نفوسهم إلى الوصال على كل حال.
ففي الحديث [العبادة في الهرج كهجرة إلي] و "المراد بالهرج هنا، الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه: أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد" (١).
ليس في الأمر مواعيد ولا جمهور، إنما قلبٌ متجرد، وروحٌ تائهة تبحث عن موطنها.
نأتيه كما نحن خفيفون من الخلق، مثقلون بالشوق.
وهذا لعمري هو زاد المسير، ومفتاح الثبات، وجسر العبور إلى عمارة الأرض ونصرة الدين.
فمن لم يتصل بالله خالياً، كيف يصبر على الدعوة جهراً؟
ومن لم يأنس بالله في ظُلَم الليل، كيف يثبت في ميادين البذل والنصب؟
أيها العاملون في كل ميدان:
إن قلوبنا محتاجةٌ إلى هذا الاتصال، فما يصلح لنا عمل، ولا تستقيم لنا دعوة، ولا تنبت لنا ثمرة، ما لم نروتوي أولاً من نبع القرب.
فاللهمّ عونك… على الثبات بعد الوهج، والنور بعد انطفاء السُرُج، والصدق حين تخلو الطرق، ويبهت الصدى.
- - - -
(١): صحيح مسلم - ت عبد الباقي ٤/٢٢٦٨