مبرهنة تارسكي لانعدام التحديد Tarski's Undefinability Theorem | مقال طويل لكن جِد عميق | من قال أننا لا نقدر على المقالات الطوال؟
إن قليلا من النتائج الرصينة قد ألقت بظلالها الطويلة في خضم الأعاصير الثقافية العاصفة بالرياضيات والفلسفة في القرن العشرين، ومن جملة هذه النتائج الخالدة مبرهنة انعدام التحديد التي صاغها تارسكي في بدايات ثلاثينيات القرن المنصرم –تلك الفترة التي شهدت اضطرابا بنيويا في محاولات إعادة تأسيس الرياضيات– وإنها تطرح حدودا ليس في الوسع الهرب منها: 《لا يمكن لأي نظام صوري قوي كفايةً أن يعرِّف الحقيقة لجُمُله الذاتية》ولهذه النتيجة الفخمة تشعبات وتفرُّعات تسرحُ بعيدا عن الرياضيات ذاتها، عابرةً الحدود إلى أعمق أعماق فهمنا للغة، وللمعنى، ولرمزية الحقيقة ذاتها.
بدأت رحلة تارسكي في صياغة تلك المبرهنة في بولندا إثر فترة بلغ فيها الإبداع الرياضي مبلغا عظيما، وقد طوَّر الرجل أفكارها وأبدَعَها حول الحقيقة واللغات الرسمية بعدما تأثر بالأعمال التأسيسية الجلل لمناطقة مثل فريجه وراسل وهلبرت، أما المبرهنة موضعَ المقال اليوم فقد ظهرت بدايةً عام 1933 باللغة البولندية تحت عنوان 《تصوُّر الحقيقة في اللغات الرسمية》، وسيُكتَب لها قبول وسيع بفضل الترجمة الألمانية عام 1935 والترجمات الإنجليزية عام 1956. وكما يلاحظ سالمون فِفِرمَن في مقدمته إلى مجموع أوراق تارسكي: 《لقد صنع هذا العمل ثورةً في حقله وحدَّد شكل الحقل الأساسي إلى يومنا هذا》(Feferman, 1986, p. 18)¹ مما يضع تارسكي واحدا نن عمالقة المناطقة.
في الوسع طرح المبرهنة ببساطة على الآتي: 《لأي نظام صوري متماسك ومتسق F قادر على التعبير عن مبادئ الحساب، فإن مفهوم الحقيقة للجمل داخل F لا يمكن تعريفه داخل F ذاتها》وأما البرهان الرياضي على ذلك فإنه يوظِّف حجة قطرية Diagonalization argument شبيهة بتلك التي جرى استعمالها في مبرهنات غودل، إلا أن تارسكي قد قارَبَ الوضع بالتركيز خصيصا على رمزية دلاليات Semantics الحقيقة بدلا من البرهنة النحوية. وعبرَ صورنة نسخة من مفارقة الكاذب Liar Paradox ("هذه الجملة خاطئة") استطاع تارسكي أن يُظهِر أن أي محاولة لتأسيس إسنادات للحقائق داخل نظام قادر على الترجيع الذاتي Self-Reference تقود –أي المحاولة– حتما إلى التناقض.
وهنالك ولا شك علاقة بين مبرهنة تارسكي ومبرهنات غودل الأُوَل، وهي علاقة عميقة ومتبادلة، ففي حين أظهر غودل أن أي نظام متسق قادر على مبادئ الحساب لا يمكنه إثبات كل الجمل الصحيحة، أظهر تارسكي أن مثل ذلك النظام لا يحتوي حتى الموارد التي تسمح له بتعريف أيّ الجمل داخله هي الصحيحة. ويشخِّص ريموند سموليان في 《Gödel's Incompleteness Theorems》 (1992, pp. 83-87)² نتيجة تارسكي على أنها 《النسخة الدلالية من مبرهنة غودل الأولى》كاشفات أن الثِّنْتَيْن تخرجان من نفس البوتقة، أو من نفس الحدود الأساسية للمرجعية الذاتية في الأنظمة الصورية. والثِّنتان تشيران إلى الحدّ الذي تقف وراءه الصورنة بحيث لا تستطيع تجاوزه بصرف النظر عن مدى ازدياد التعقيد أو قوة التعبير.
ومواجها مؤديات مبرهنته، طوَّر تارسكي واحدةً من أكثر أفكاره تأثيرا: تراتبية اللغات الدلالية Semantic Hierarchy of Languages، فإذا كانت الحقيقة للغة L0 لا يمكن تعريفها في L0 ذاتها، يقول تارسكي، أنه لا بد أن يكون تعريفها ممكنا في لغة L1 وصفية Metalanguage، فكما يكتب في عمله الرئيس: 《إن مفهوم الحقيقة لا يدين إطلاقا للغة التي تحاول تعريفه، بل للغة وصفية》(Tarski, 1956, p. 267)³، وهذا الإلهام يقود إلى تراتبية لانهائية: تعريف الحقيقة لL1 يتطلب لغة وصفية L2، وهكذا إلى غير نهاية. وإن هذه الطبقية تتوافق مع نظرية راسل للأصناف Theory of Types، والتي جرى تطويرها لتجنب المفارقات في نظرية المجموعات.
وللمبرهنة استتباعات تخطو بعيدا عن الاهتمامات المنطقية الصَّرِفَة، فعبر تقرير استحالة تعريف الحقيقة داخل لغة للجمل من نفس اللغة، واجه تارسكي إعادة اعتبار هام للعلاقة بين اللغة والواقع. فقد بنى دونالد ديفيدسون عمله الكبير 《Truth and Meaning》(1967, pp. 304-332)⁴ على قوالب تارسكي الدلالية بحيث طور نظرية للمعنى التي ترتهن بظروف الحقيقة. فعنده أن تارسكي وفي حين أظهر عدم استطاعة اللغات أن تحتوي إسنادات حقائقها، إلا أن نظريته الدلالية وفَّرت حجر الأساس لفهم الكيف الذي تتصل به اللغة بالعالَم.
وأما هيلاري بوتنام، فاحصا مؤديات المبرهنة في كتابه 《Reason, Truth and History》(1981, pp. 105-117)⁵، يجادل بأن عمل تارسكي يتحدى أساسات نظريات مطابقة الحقيقة Correspondence theories of truth من خلال توضيح أن رمزية المطابقة بين اللغة والواقع لا يمكن صورنتها داخل اللغة نفسها. وهذي الحدود تعكس تفرقة فتغنشتاين الشهيرة في 《Tractatus Logico-Philosophicus》 بين ما يمكن قوله وما يمكن إظهاره فحسب.