"Eau de Fesikh"... يا له من اسمٍ ساحر لعطرٍ جديد!
وربما يتبعه بعد حينبـ "عطر الثوم القوي"، و"إكسير البصل المركز"، و"كولونيا الكرنب الأصلية"...
ما المانع؟
طالما أن "التعود" قد فعل فعله، وأفسد بوصلة الذوق، وأقنعنا بأن النتن قد يكون عِطراً!
هذا "الإلف"، يا صديقي، هو الخطر الحقيقي.
إنه ذلك المُخدّر البطيء الذي يُغيّر معاييرنا دون أن نشعر.
يُحوّل القبيح إلى مقبول، والمرفوض إلى مألوف، والمُنكر إلى مُستساغ.
يبدأ برائحةٍ كريهة نعتادها، وينتهي كثيرا – للأسف – بقيمٍ ومبادئ وأخلاقٍ نُفرّط فيها ونُطبّع مع نقيضها، فقط لأننا اعتدنا رؤيتها أو سماعها أو التعايش معها.
"أرَى المُتَشاعِرينَ غَرُوا بذَمّي.... ومَن ذا يَحمَدُ الدّاءَ العُضالا
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ.... يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا"
المتنبي متحدثا عمن انقلبت لديهم حقائق الأشياء فاستحسنوا الداء وكان الماء العذب مرا في حلوقهم
"إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات"
هكذا بيَّن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه تلك الحقيقة التي لا نلحظها مع طول الأمل واعتياد الأشياء
حقيقة تغير المعايير والتعريفات
لقد تغير حكم من عاصرهم سيدنا أنس وتحولت نظرتهم لبعض الأمور مع مرور الوقت وطول الأمد فصارت أشياء هينة بسيطة وصغرت في أعينهم حتى صارت أدق من الشعر رغم أنها كانت يوما -قبل اعتيادها- من الموبقات
وربما لو مد الله في عمر سيدنا أنس أعواما لوجد من لم يعد يراها أدق من الشعر بل لم يعد يراها أصلا
وماذا لو مكث قرونا بعد ذلك وعاش إلى زماننا هذا؟
ماذا سيقول عن "موبقاتنا" التي أصبحت "تريندات" ومادة للسخرية والضحك؟
أليس من الممكن أن يجد من اعتادوا تلك (الموبقات) حتى صارت هي الأصل وصار المستغربون المستهجنون هم من يتقونها أو حتى يأنفون منها ويضايقهم وقوعها
أعتقد أن هذه الافتراضات لا يمكن استبعادها فنحن بالفعل نراها ونعيشها والتي تعد أهون صورها هي تلك التي تظهر في تعامل الكثيرين مع تلك الرائحة المنتنة التي مهما تعود عليها البعض وألفوها وأحبوها أو حتى عبأوها في زجاجات وتعطروا بها فستظل في حقيقتها منتنة مقززة
لن يتحول الفسيخ أبدا إلى شربات
سيظل الفسيخ فسيخاً مهما زيّنوه بالليمون والبصل، والعفن لن يُستخلص منه بارفانٌ أبداً
ستظل المشكلة دائماً وأبداً في الأنوف التي قررت أن تتعود أو تتخلى عن حساسيتها وتتصالح مع ما يزكمها حتى إنها قد لا تمانع يوما أن تتعطر بعطر مستمد منها
عطر الفسيخ