رسالة من شخص غير مهم... لمن قد يَهتم..
في خضم كثير من التعليقات التي تنصح، بلطفٍ أحياناً وبفظاظةٍ أحياناً أخرى، بتقصير المقالات وتقليل عدد السطور في زمنٍ أقل ما يُقال عنه إنه لا يحب القراءة المطولة، جاءني هذا التعليق من شخصٍ لا أعرفه:
"هو انت مهم اوى علشان حد يقرالك كل ده".
همس شيطاني في أذني، مُزيناً لي عشرات الإجابات القاسية التي أنتصر فيها لنفسي وأبرز قدرتي على قصف الجباه لكن أحمد الله أن كظمتُ غيظي واخترتُ أهونها أو هكذا أظن
كانت إجابتي ببساطة: "لا. لستُ مهماً مطلقاً، لكن لا أذكر أنني طرقتُ بابكَ أرجوكَ أن تقرأ لي سطراً".
وفعلاً، أنا لستُ مهماً قط.
لستُ كذلك إلا لعددٍ قليلٍ من البشر ربما لا يجاوز عدد أصابع اليدين..
أما تعليقات المطالبة بالتقصير، فأستطيع أن أتفهم دوافع أصحابها وأن أُقدرها، خصوصاً أن أغلبها يكون من منطلق الحرص على الانتفاع وإيصال الفائدة لأكبر شريحةٍ ممكنة العابرين في هذه المواقع التواصلية.
ورغم أنني أكدتُ مراراً أنني حين أنشر مقالاً مطولاً فهو غالباً ما يكون فصلاً من كتاب، ولا أجد للأسف الوقت ولا الجهد لاختصاره ليناسب قالب منشورٍ عابرٍ على وسيلة تواصلٍ اجتماعي تلتهم كل شيء بسرعة الضوء. لكن إذا نُظر إليه على هيئته الأصلية، فلا أظن أبداً أن قارئاً له خبرةٌ بالكتب سيجد أن 700 كلمة أو حتى ضعف هذا العدد يعد فصلاً طويلاً بمقاييس الكتابة الأدبية التي نعرفها وليس أدب التغريدات الذي لا أقلل منه وأتمنى يوما أن أجيده.
نقطةٌ أخرى تسبب بعض الالتباس، وهي طبيعة الكتابة التي يغلب عليها الطابع الأدبي التأملي أو النفسي.
هذه الكتابة، فيما أرى وأزعم، من أهم ما يميزها أن يترك الكاتب قلمه يسترسل بما يشعر به قلبه ويُحلق به خياله دون قيودٍ كثيرة.
وهذا ما تعودته في أغلب كتاباتي، ولذلك أيضاً لم أتحمل مدةً طويلة الكتابة في الصحف التي تشترط أن يكون العمود أو المقال بعددٍ معينٍ من الكلمات وهو بالمناسبة لا يقل غالباً عن العدد الذي أرفقته!
كذلك يكون من الصعب جداً عليّ أن "أُستكتب"، بمعنى أن يطلب مني موقعٌ أو منصةٌ ما أو دار نشر موضوعاً معيناً لكتابٍ أو مقال.
الكتابة بالنسبة لي ليست وظيفة، بل هي أقرب للتنفس، تأتي حين تأتي، وتختنق إن حُبست.
حتى أنا، حين أُستكتبُ نفسي، فأطالبها بتحويل سلسلة مرئية أو سمعية ألقيتها بالفعل ومادتها قد حضرتها من قبل والتفريغات المكتوبة جاهزة = أكسل جداً وأتثاقل عن تحويلها لكتاب رغم سهولة ذلك نسبياً!
حين أبث شيئاً من مكنون صدري عبر قلمي، فأتمنى أن يكون غير مُتكلف، وأرجو أن يكون مقصده إيصال فائدة.
لكن ثمة مقصد آخر
شخصي جداً وحميميّ كأنه سرٍ قديم، أعتقد أنه لا يهم أحداً لكنني على أية حال أود الاعتراف به
كثيرٌ مما أكتب هو مجرد نفثة مصدور أُخرجها كي لا تخنق روحي بكتمانها.
ذلك لأنني، وليس كما يظن البعض، لا أُجيد التعبير الشفهي عن كل ما يجيش به صدري من ألمٍ أو حيرة أو حتى فرحٍ صامت.
نعم، أنا هو نفسه الذي قد يلقي المحاضرات والبثوث المباشرة والسلاسل المرئية عبر القنوات الفضائية بطلاقةٍ قد تُوهم بالثقة، لكن إذا جاءت لحظة التعبير عن ذاته أو ألمه الشخصي أو شيءٍ يؤرقه؛ أُلجم لسانه وغاب بيانه واختار الكتمان كحصنٍ أخير.
أو ربما، إن انطلق اللسان، لم يجد من يسمع ويقدر من بني الإنسان في عالمٍ يضجّ بالمتكلمين ويفتقر للمُنصتين.
لذلك ستجد أن كثيراً من كتاباتي تكون عبارة عن (فضفضةٍ) قد لا تهمك ولا تعنيك، قد تبدو لك مجرد هذيانٍ أو أنينٍ مكتوم، لكنني قد وجدتُ أن سكبها عبر الأثير يُعينني ويُريحني بشكلٍ ما، وكأنني أُلقي بعض أحمالي في بئرٍ لا قرار له.
لذلك أرجو، إن سبب ذلك إزعاجاً لأحد، ألا يلومني.
فإن ذلك اللوم والتقريع يؤذي و يؤلم خصوصاً أصحاب الهشاشة النفسية الذين أنتمي إليهم دون اختيارٍ مني، ودون استسلامٍ لذلك الضعف الذي هو جزءٌ من إنسانيتنا جميعاً.
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
والله المستعان... على هشاشتنا، وعلى أقلامنا، وعلى من يقرأ
ومن لا يقرأ.