أنماط التفكير العجيبة التي يستحيل أن يتوفّر معها قاعدة للنقاش؛ كثيرة، ومنها: رؤية كلّ شيء على غير حقيقته، بل على ضدّه على أساس المشاعر والرغبات والأماني، والمشكلة في هذا النمط من التفكير لا في انعدام القدرة على مناقشة صاحبه فحسب، ولكن أيضًا في أثره العامّ على الناس حينما تستولي عليهم تصورات هي محض أوهام، وفي أحسن أحوالها لا تكاد تقوم على شيء.
وهذا النمط المختلّ قد ينجم عن اختلال عقلي أو أخلاقي، ولذلك دعا القرآن للعدل والإنصاف مع الخصم، والشهادة بالحقّ على النفس وأقرب الخلق إليها، ودعت الآثار للتوسط والاعتدال في عاطفتي الحب والبغض، وفي مقابل ذلك، يستجيز الناس لأنفسهم فعل ما يذمون غيرهم على فعله، فإن حاققتهم تأوّلوا لأنفسهم ما لا يقبلونه عذرًا لمن يذمونهم، وهم في ذلك كلّه يعتقدون جازمين أنهم محقون.
هذه المشاعر المتطرفة، وما يتصل بها من دوران مفرط حول مسائل بعينها تتحول بمرور الوقت إلى نافذة وحيدة لرؤية العالم؛ تفضي إلى تحريف التاريخ والواقع ومن ثمّ تشويه الوعي، وذلك علاوة على تنكب العدل ومخادعة النفس بالاستسلام للغرائز العاطفية، فتنعدم فضائل من نكره في وعينا، حتى نحوّل فضيلته الظاهرة إلى خطيئة، فإن لم نستطع ننتقصها، وتتضخم فضائل من نحب وقد نصطنع له من الفضائل ما هو خيالات وهلاوس لا أكثر، كأن نتخيل أنّ فلانًا هو صلاح الدين لهذا الوقت، ونتأوّل له كلّ شيء، ونجعل ما يبدو في الأمر الظاهر عيوبًا حسنات، ويسارع المهووسون للكلام فيما يجهلون أو لم يخبروه أو فيمن لم يعايشوه، في حين يسعهم السكوت انتظارًا لاستبانة الحقائق، ويسارعون أكثر إلى ادعاء استشراف المستقبل واستظهار الغيب المكنون فيه؛ وليس لهم من حجة سوى الأماني!
وهذا الصنف من الناس غالبًا لا يتحرك في دماغه إلا منطقة صغيرة، ولا يتسع قلبه إلا لموضوعات محدودة، فيصير العالم كله والتاريخ والمستقبل والبشر والوجود، هذا الشخص الذي يحبه، وتلك الطائفة التي يبغضها، وتلك الأمنية التي يعتقد جاهلاً أنّ الواجب على الله تعالى تحقيقها له.
ويبدو أنّ أصل هذا التخلف العقلي والقصور الأخلاقي له حظ من كلّ أحد، للنقص الحاصل في الجنس البشري، ولكنه يتفاحش في البعض ويضمر في آخرين، بقدر الاستعدادات العقلية والنفسية في كل أحد، ويضمر أكثر فيمن لديهم قابلية إدراك الأخطاء وفيهم حساسيات عالية لتحرّي الحقّ ونزوع قوي نحو المعرفة، ومن كان هذا شأنه اشتدت فيه مجاهدته لنفسه، وتجرأ على مواجهة أهوائه، ولم يرض لغيره ما لا يرضاه لنفسه، وإلا فإنّ هذا الضَرْبَ من العصبيات المستعصية، والانحرافات الحادّة في البصر والبصيرة، واضحة عند أذكياء، وجماعات، ورموز، وهي تجعل هذا العالم أكثر ضيقًا كلما انتشرت أكثر.