قام البروفيسور الإسباني غاسبر مايرال، ببذل جُهد علمي عظيم وتنقيب تاريخي طويل بحثًا عن الجذر الّلغوي لكلمة "المُخاطرة" Risk بالإنجليزية، ليجد أنّها ترجع إلى كلمة "الرزق" Rizq عند المسلمين والعرب.
حيث تمّ تمرير الكلمة من العربية إلى الّلاتينية في القرن الثالث عشر ومن ثمّ إلى الّلغات الرومانسية الخمس كالفرنسية risque والإسبانية riesgo والإيطالية ونحوها.
تطرح هذه الخلاصة التاريخية العجيبة، سؤالًا جوهريًا:
ما العلاقة بين (المُخاطرة) وبين مفهوم (الرزق) لدى المسلمين؟
يفسّر الباحثون هذه العلاقة، بالإشارة إلى أنّ مفهوم الرزق عند المسلمين يُؤسّس بطبعه للمُجازفة والمخاطرة والتحرّر من قيود الخوف والقلق من المستقبل.
يقوم التصوّر العقدي بأن الله عزّ وجلّ وحده الرازق، وأن مَن سواه وإن كان مُديرك بالعمل أو مسؤولك المباشر في الوظيفة أو الزبون الذي تحتاجه وتتوسّله لشراء بضاعتك، هؤلاء جميعًا في نهاية المطاف.. ليسوا سوى "أكلة رزق" من أناس مرزوقين بالأساس، رَزَقهم الرزّاق وحده الذي يرزق جميع الخلق والمخلوقات والدواب فردًا فردًا وكيانًا كيانًا.
هذا التصوّر العميق للكسب والاكتفاء المالي والسعي للرزق بذهنية منعتقة من مخاوف الإنسان البدائي، قد دفع بتُجار المسلمين إلى المُجازفة لخوض مجاهل الصحارى وما وراء البحار وأطلق العنان لحركة سعي وتجارة عالمية، ظنًّا منهم أن رزقهم لن يفوتهم بالمخاطرة.
الخسارة والربح عمليتان غير مضمونتان بطبيعة الحال، لكن الرزاق جلّ في علاه.. مضمون دائمًا وأبدًا، يتكفّل بعبيده وعباده، مؤمنهم وكافرهم، مُقصّرهم ومجتهدهم، مُسيئهم ومُحسنهم.
بهذا المعنى، لم يكن تسرّب مفردة (الرزق) إلى اللغات الأخرى استنساخ صوتي محايد، لكنه انقلاب مفاهيمي لدى البشر يرمز إلى أن السعي لكسب المال وتأمين لقمة العيش بطبعه محفوف بالمخاطر.
ما المشكلة بالمخاطرة أو الخسارة، إن كان الله سيعوّض كلّ نقص بطبيعة الحال؟
وممّ يخاف المرء إن كان متوكّلًا على الرزّاق؟ فرزقته مقسومة بالأساس لن يحرمَهُ إيّاها أحد (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت) وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّ جبريل عليه السلام نَفَثَ في رَوعه الشريف: إنَّه لا تَموت نفسٌ حتى تستكمل رزقَها!
لكن، بأي معنى يُؤمن المسلمون اليوم بمفهوم (الرزق)؟
يُربّي الناس أبناءهم على أسس تتعارض تمامًا مع مفهوم (الرزق) بصيغته التوحيدية.
تعيش في مجتمعات تسألك منذ صغر سنّك: ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟ وهي أسئلة تحصر اهتمامك وتعريفك لنفسك في "مُسمّاك الوظيفي" وكأنه غاية الحياة، ومأمولها، عن طريق إخبارك عن مدى روعة العمل لدى الشركات الكبرى: جوجل، ومايكروسوفت، وأمازون!
وهذه التنشئة الاجتماعية التي تمتدح الوظيفة لذاتها، تتحول في لاوعي الأفراد لتصورات عميقة عن أنفسهم وأهدافهم وطموحاتهم وهي طموحات ستصير لاحقًا هاجسًا عُصابيًا وأغلالًا ضدّ النزاهة الأخلاقية.
غني عن الذكر أن الوظيفة مهمة، والسعي لكسب المال مَسعى بشري أصيل ومشروع، لكن اختزال الإنسان لقيمته وغايته وحصر أثره في حياته بالعمل والوظيفة، ما هي إلا وصفة مضمونة لترويض الإنسان وتدجينه كدجاجة وبناء إنسان منزوع القيمة الأخلاقية، لا يدافع عن مظلوم، ولا ينتصر لزميل تواطأ باقي الموظفين ضدّه، خشيةً منه على خسارة مصدر رزقه.
هذا تحديدًا جوهر النقاش الذي أحاول عقده هنا، فعلاقة الإنسان مع مفهوم الرزق والمال، ليست مسألة هامشية. فالمال والطريقة التي تتصور بها طريقة كسبه، يشكّل موقفك الأخلاقي والوجودي من العالم ومن ذاتك ومن الآخرين.
في عام 2011 كتب الفيلسوف الإيطالي لزاراتو (Lazzarato) كتابًا مثيرًا بعنوان (صناعة الإنسان المَديون) يشرح فيه كيف يقوم النظام النيوليبرالي للعالم اليوم، على تحويل الناس إلى أشخاص مديونين بالضرورة، وهو ترويض تلقائي يحدّده شكل نظام العيش المعاصر، يجعلك على الدوام تركض في دوائر مفرغة من الاستدانة وسدّ الدّين، لتحقيق متطلّبات العيش المفروضة على الأفراد كمعايير أساسية للنجاح والتميّز.
ويمكن توصيف التحوّل الأساسي من الرأسمالية الكلاسيكية إلى النيوليبرالية بأنّ الإنسان لم يعد يعمل ليعيش، بل يقترض ليعيش، ثم يعمل ليُسدّد ديونه.
وهذا الوعي لا يقلب فقط منظور الإنسان عن نفسه وإنّما يقلب حتّى مفهوم الزمان لديه، ليصير الخط الزمني لحياة الفرد عبارة عن تواريخ استحقاقات الديون والأزمنة المُحدّدة لدفع الأقساط وسداد القروض.
وهي تحوّلات تؤول بالضرورة إلى اعتناق عقيدة الخلاص الفردي، وتكريس العجز وزيادة الجُبُن، وإشغال ذهن الفرد عن الاهتمام بقضايا أمّته وجماعته التي تتحوّل لشعور عميق بالذنب لا يزيد الفرد إلّا شلَلًا.
وخلاصة ما أريد قوله أنّ:
الرزق ليس مفهومًا عقديًا فحسب، لكنه منطق سلوكي يُحصّن التماسك الأخلاقي للمُسلم ويحمي فاعليته.
الرزق في أصله، ليس وعدًا بالغنى، بل انعتاقًا من الخوف الذي يجعلُكَ كائنًا وضيعًا وإنسانًا جبانًا.