••
|• أنوثة تعقل المودة |•
أحيانًا، في لحظات الصفاء النادرة، أسأل نفسي: كيف كانت تُبنى البيوت قبل أن تُنشأ معاهد الاستشارات الأسرية، وقبل أن تُرصّ كتب العلاقات الزوجية في الرفوف اللامعة؟كيف كانت تُغرس المودة؟ كيف كان يُدار الاختلاف؟ من أين كانت المرأة تستمد حكمتها، والرجل بصيرته؟
ثم أجد الجواب لا في ورش العمل ولا شهادات الاعتماد، بل في وصية أمّ مؤمنة، عرفت بفطرتها ما لم يُسجّله كثير من المختصين، وهي لم تحمل لقب "استشارية أسرية"، ولا استظلّت بفضاء رقميّ، بل عاشت في مجتمع قبليّ، ومع ذلك قدّمت لبنتها وصية تربوية تربو على كتب المناهج بأكملها، هي أمامة بنت الحارث، يوم زفّت ابنتها أمّ إياس، لم تكتب لها رسالة وداعيّة، بل ألقت في قلبها حكمةً تقطر فقهًا في النفس البشرية، وبصيرةً في إدارة العلاقة، وصناعة المودّة، وحفظ العشرة.
وهنا، في هذا النصّ النادر، تُعاد هيكلة العلاقة لا على صراع الأدوار، بل على حكمة التفاهم. فمن تأمل هذه الوصية، عَلِم أن تدبير البيوت لا يصنعه الانفعال، بل الحِكمة، وأن دوام الزواج لا يُبنى على الرغبات، بل على الرعاية، والتفهّم، والعقل الرشيد.
"أي بُنيّة: إن الوصية لو تُركت لفضل أدب، تُركت لذلك منك؛ ولكنها تذكرةٌ للغافل، ومعونةٌ للعاقل. ولو أن امرأةً استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدّة حاجتها إليهما، كنتِ أغنى الناس عنه؛ ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهنّ خُلق الرجال.
أي بُنيّة: إنك فارقتِ الجوَّ الذي منه خرجتِ، وخلفتِ العشَّ الذي فيه درجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فأصبح بملكه عليكِ رقيبًا ومليكًا؛ فكوني له أَمَةً، يكن لكِ عبدًا وشيكًا.
يا بُنيّة: احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذِكرًا:
• الصحبة بالقناعة،
• والمعاشرة بحسن السمع والطاعة،
• والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضوع أنفه؛ فلا تقع عينه منكِ على قبيح، ولا يشمّ منكِ إلا أطيب ريح،
• والكحل أحسن الحسن، والماء أطيب الطيب المفقود،
• والتعهد لوقت طعامه، والهدو عنه عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة،
• والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم جميل التدبير،
• ولا تفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنكِ إن أفشيتِ سرَّه، لم تأمني غدره، وإن عصيتِ أمره، أوغرتِ صدره،
• ثم انقي له الفرح إن كان ترحًا، وإلا فكتئاب عنده إن كان فرحًا؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير،
• وكوني أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لكِ إكرامًا،
• وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة.
واعلمي: أنكِ لا تصلين إلى ما تحبين، حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببتِ وكرهتِ، والله يُخيّر لكِ".
📚 جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة - أحمد زكي صفوت - ١ / ١٤٥.
••