«يا بُني، أنا أدَّخِرُك لِنفسِي»
الحمدُ لله مِن قبلُ ومِن بعدُ،
• فقد امتنَّ الله تعالى عليَّ بعد شرف الإسلام بأبٍ قلَّ الزمان أن يجودَ بمِثله!
وقد وعَيتُ هذا الشرفَ مُنذ كنت غلامًا فوق سن التمييز بقليل، فازداد تعلقي به، فكنت أصحبُه في حِله وترحالِه، في شغله وفراغه، في سرَّائه وضرَّائه، لا أنفَكُّ عنه إلا مَا ندُر.
أذكُر يومًا أني اصطحبته إلى المطار لسفرٍ لم أستطع مرافقته فيه، فوقفتُ منكسرَ القلبِ حزينًا لفراقِه، وَأرسلتُ لهُ قول عليِّ بن الفضيل بن عياض لأبيه:
«يا أبَتِ؛ سَلِ اللهَ الذِي وَهبَنِي لك فِي الدُّنيا، أن يهبَني لك في الآخرةِ»
• عشتُ عمري في كنفِه ابنًا وتلميذًا ومساعدًا وصاحبًا وخادمًا، فكانَ نِعمَ السَّيِد، حتى إنَّني ذكرتُ للطبيب يومًا أنَّه كَان إذا اشتَكَى والدي مِن عِلَّةٍ أجدُني أَشتَكِي مِن نَفسِ العِلَّة فِي نَفسِ المَوضِع، مِن شِدَّةِ مُعَايشتي لأحواله وَتَعلُّقي به.
• سيدي الوالد رفَع اللهُ درجاتِه لَم يكُن محطةً من محطَّاتِ حَياتِي، بَل كان محورُ حياتي.
• أذكُرُ أني لمَّا استشرتُه فِي الإقدَامِ على بَعضِ أُمُور الدُّنيا لم يزِد عَلى أَن قَال:
«يا بُني، أنا أدَّخِرُك لِنفسي».
فَشرحَ اللهُ صدرِي لِمَسلَكِه، وَصرتُ لا أَرى إلا بعينِه، ولا أسمع إلا بأُذُنِه، ولا أمشي إلا مَعه.
• فسلكتُ سبيل العلم بين يديه، ولازمتُه في مكتبته، حتى أخذتُ من سمتِه ودَلِّه، مع تخصُّصِي في علم الحديث بجامعة الأزهر.
واتخذتُ هذا طريقًا لي في حياتِه، وحملتُ راية نشرِ دعوته وعلمِه بمُبَاركتِه، مِن خلال الوسائل المرئيَّة والمسموعة والمكتوبة، فلمَّا اطمأنَّ قلبُه وازدَادَت ثِقتُه بِي؛ شرَّفَني بِتَسجِيل بيانٍ مرئيٍّ، وكتابة عَقدٍ بخطه، يُرجِع فِيه جميعَ حقوق الملكية لتراثه لي، بِكلِّ أنوَاعِه: (الصوتية والمرئية والمكتوبة، وكذلك الكتب العلمية التي لم يُعطِها لناشر) وأنَّ حقوقها لولدِي هيثم لا يُنازِعُه فيهَا أحدٌ، وَهذا تَكليفٌ لَا تشريفٌ، أسأل الله تعالى أن يُعينَنِي عليه.
• واليومَ وقَد حلَّ بِنا مُصَابُه، وفقدنَا بالفِراقِ أنوارَه، فإنِّي عَلى خُطى أَبي أقتَفِي أثرَهُ، وأعمَلُ بعملِه، وأُكمل ما شارفَ الانتهاءَ، وأبتدِئُ ما أرادَ ابتداءَه، فأنا أخبَرُ الناسِ به، وأقربُهم إليه، وأَفهمُهُم لمُرادِه، فَلا يكادُ كتابٌ ولا عملٌ له يخلو من بصمةٍ لي بحمد الله.
• وقد أنشأتُ مع سيدي الوالد -رفع الله درجاته- مكتبًا علميًّا قبلَ ستة أشهر، وقد سمَّاهُ: «مكتب الحويني العلمي» ووَضَعَ منهجه، ورسم خُطته، فلن تنصرف آثاره ولن تنقطع، بل أُخرجُها بعون الله، وأزيدُ عليها بإذن الله تعالى.
تلك هي حياتي وشُغلي الشاغل لا أَحيد عنه بعون الله وتوفيقه، وهذا أقلُّ ردٍّ لجميل سيدي الوالد.
نعم.
إنه لا ينبغي للخادم أن يَبرُز بجوار السيد، لكنه قضاء الله وقدره، وتلك سُنة الحياة.
وأتمثَّل بقول الشاعر:
خَلَّف العِبء عليَّ وولَّى .. أنا بالعِبءِ له مُستَقِلُّ
• وإنَّني فيما أستقبلُ من أيامي -إن شاء الله- أبثُّ ما عِشتُه مع الوالد مِن علمٍ وأخبارٍ وفوائدَ وحكاياتٍ في كتاباتٍ، وكذلك في حلقاتٍ مرئيَّةٍ.
وإتمامُ ترجمتِهِ التي ابتدأتُها من سنواتٍ باقتراحٍ من أبي، والتي سمَّاها لِي: «حدَّثَني أبي» وهي ترجمة علمية دقيقة تُقرُّ عينَ المُحب إن شاء الله تعالى.
فلتكن قرِيرَ العينِ يا أبي، فِإنني مُستمسِكٌ بِما تَرضى، وَأستعينُ باللهِ على ذلك.
رَفَعَ اللهُ درجاتَ سيدي الوالد في عِليين، وألحَقنا بِه في الصَّالحِين، غيرَ خزَايَا ولا مَفتُونِين، إنَّه بِكلِّ جميلٍ كفيل، وهُو حسبُنا وَنِعم الوَكيل.
وكتبه: هيثم بن أبي إسحاق الحويني
عفا الله عنه وعن والديه وعن المسلمين.
٢٤ رمضان ١٤٤٦ | ٢٤ مارس ٢٠٢٥