او حين يتلقى كتابه بشماله فيقول "یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُوتَ كِتَـٰبِیَهۡ () وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِیَهۡ () یَـٰلَیۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِیَةَ"
تتكرر "يا ليت"
ويا لها من "يا ليت" موجعة!
"ليت" التي لا تُعيد ما فات، ولا تُصلح ما انكسر.
" وَیَوۡمَ یَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ یَدَیۡهِ یَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِیلࣰا"
تأخرت كثيرا
عض بحسرة كما شئت فأمنيتك جاءت متأخرة بعد أن اخترت فلانا خليلا
ماذا؟
لديك ليت أخرى؟
" یَـٰوَیۡلَتَىٰ لَیۡتَنِی لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِیلࣰا"
للأسف لا فائدة إلا الألم
الأمنيات المتأخرة دائما أشد إيلاما
صيحات الندم التي لا تجدي، لأن الوقت قد مضى.
"وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ وُقِفُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُوا۟ یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"
في هذا المشهد الختامي وهم يعاينون النار تستمر الأماني
لكن الرد الصاعق يأتي بعدها مبينا أنها مجرد وهم
أماني كاذبة
" بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا۟ یُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّوا۟ لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ"
تلك الثلة من الأمنيات لو تأملت مفرداتها ستجد أصلها طيب فما الذي حولها إلى حسراتٍ متأخرة وأمنيات مستحيلة
ما هو ذلك الفيروس الذي يُصيب الإرادة ويعطل ترجمة هذه الأمنيات إلى واقع؟
"التسويف"
ذلك السجن الذي نبنيه بأيدينا من قضبان "سوف" و"غداً" و"لاحقاً"، ونُحكم إغلاقه بـ"الأمل الطويل" الكاذب.
كم من مرةً تمنيت أمنية مشروطة بوقت؟
"غداً سوف أتوب"
"غداً سوف أبدأ بحفظ القرآن"
"غداً سوف أصل رحمي"
"غداً سوف أصفي ما بيني وبين فلان"
"غداً" و"سوف"
لصوص الأعمار
قاطعو طريق السالكين إلى الله.
نُظل نُمني أنفسنا بـ"غدٍ" أفضل، حتى يأتي "غدُ" الموت فجأة، فنصرخ بأمنية أخرى مستحيلة:
"رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ"
. لكن هيهات!
يأتي الجواب حاسما:" كلا إنها كلمة هو قائلها ومن وارائهم برزخ إلى يوم يبعثون"
هذه هي الإشكالية التي يسأل القرآن عنها كثيرا
لماذا الانتظار
لماذا الأماني المؤجلة
"أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ؟"
لقد كان لديك الوقت، كانت لديك الفرصة لترجمة الأمنية إلى عمل
لكنك اخترت "غداً" الذي لا يأتي أبدا
سجنٌ، قضبانه التأجيل، وأسواره الأمل الطويل.
وثمة طريقة واحدة أو معول واحد يكسر قضبان هذا السجن
معول يكمن في كلمةٍ واحدة
"الآن!"
الآن وليس غدا او بعد غد
"وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ..."
تأمل الكلمة التي تبث الحركة في أوصال جمدتها الأماني
من قبل
وكأنه سباق عليك أن تسارع في مضماره
"وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ"
انطلق الآن من سجن "سوف" وحطّم قضبان التسويف، اكسر أغلال الأمل الطويل.
وانظر إلى أمنياتك التي تزدحم بها روحك.
زنها بميزان الشرع والعقل.
إن كانت أمنيةً صالحة، أمنيةً تُقربك إلى الله، أمنيةً فيها خيرٌ لك وللناس، فلا تكتفِ بأن تحلم بها، بل اسعَ إليها الآن، بالنية الصادقة، والعمل الدؤوب، والتوكل على الله.
حوّلها من مجرد حلمٍ ورديٍّ إلى واقعٍ ملموس
إلى سعيٍ حثيثٍ في دروب الخير.
وإن كانت أمنيةً دنيئة، أمنية شرٍ أو هوى، فاستبدلها الآن بما هو خيرٌ وأبقى.
طهّر قلبك منها، وازرع مكانها أمنياتٍ تليق بعبدٍ يرجو لقاء ربه.
والأهم ألا تنتظر حتى تقف على حافة القبر لتصرخ "يا ليتني".
إن "ليت" لن تُعيد عقارب الساعة إلى الوراء ولن تنجيك يوم الحساب الذي لا ينفعك فيه إلا سعيك
"وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ"
اسعَ اليوم بما تستطيع، واجعل أمنياتك جسوراً تعبر بها إلى رضوان الله وجنته لا سلاسل ثقيلة تجذب روحك إلى دركات الحسرة التي لا تنتهي.
افعل ذلك اليوم
وليس غدا..