وبين الله عز وجل لرسوله ﷺ حديث أهل النفاق وما بينهم وبين اليهود، وكانت اليهود قد عيروا المسلمين - حين يهدمون الدور ويقطعون النخل - فقالوا: ما ذنب الشجرة، وأنتم تزعمون أنكم مصلحون؟فهم غدروا النبي ﷺ، وحاولوا قتله، وتظافروا مع المنافقين، ونقضوا العهد، وخربوا بيوتهم بأيديهم، ومع ذلك عيّروهم بقلع الشجر!
ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال: ﴿وتتخذون مصانع﴾ أي: أشياء [بأخذ الماء، أو قصورا مشيدة وحصونا] تصنعونها، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتا، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود، ولذلك قال: ﴿لعلكم تخلدون﴾ وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم.
ولما بين أن عملهم عمل من لا يخاف الموت، أتبعه ما يدل على أنهم لا يظنون الجزاء فقال: ﴿وإذا بطشتم﴾ [أي]: بأحد، أخذتموه أخذ سطوة في عقوبة ﴿بطشتم جبارين﴾ أي: غير مبالين بشيء من قتل أو غيره؛ قال البغوي: والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
ولما كان كأنه قيل: فإنهم إذا أحضروا لا يقدرون - إن كان لهم عقل أو فيهم حياء - على النطق إذا سمعوا هذا الحق، بني عليه قوله: ﴿فإن﴾ اجترؤوا بوقاحة ﴿شهدوا﴾ أي: كذبا وزورا بذلك الذي أبطلناه بالأدلة القطعية ﴿فلا تشهد معهم﴾ أي: فاتركهم ولا تسلم لهم، فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى...
أي: قل لمن حرَّم ما أحل الله، ونسب ذلك إلى الله: أحْضِروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا، فإذا قيل لهم هذا الكلام، فهم بين أمرين: إما: أن لا يحضروا أحدا يشهد بهذا، فتكون دعواهم إذًا باطلة، خلية من الشهود والبرهان. وإما: أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك، ولا يمكن أن يشهد بهذا إلا كل أفاك أثيم غير مقبول الشهادة، وليس هذا من الأمور التي يصح أن يشهد بها العدول؛ ولهذا قال تعالى –ناهيا نبيه، وأتباعه عن هذه الشهادة-: ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي: يسوون به غيره من الأنداد والأوثان...
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ أَيْ: كَمَا كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَاكَ اللَّهُ فَلَا تَقْهَرِ الْيَتِيمَ، أَيْ: لَا تُذِلَّهُ وَتَنْهَرْهُ وَتُهِنْهُ، وَلَكِنْ أحسِنْ إِلَيْهِ، وَتَلَطَّفْ بِهِ.
﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ أَيْ: وَكَمَا كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ، فَلَا تَنْهَرِ السَّائِلَ فِي الْعِلْمِ الْمُسْتَرْشِدَ.
﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ أَيْ: وَكَمَا كُنْتَ عَائِلًا فَقِيرًا فَأَغْنَاكَ اللَّهُ، فَحَدِّثْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ، كَمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ النَّبَوِيِّ: "وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا، قَابِلِيهَا، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا".وكأن في هذا إشارة لطيفة إلى أن الإنسان في العادة ينسى النعم التي أنعم الله سبحانه بها عليه، فيحتاج إلى تذكير خاص ليشكرها!
وقوله ﴿كَفَّارٌ﴾ يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.
يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لذو جحد لنعم ربه التي أنعمها عليه مبين: يقول: يبين كفرانه نعمه عليه، لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله.
﴿وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا﴾ يقول: وكان الإنسان ذا جحد لنعم ربه.
إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيَها العباد، ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين.
كان لعبد الله بن أبي مقام يقومه كل جمعة، لا يتركه شرفا له في نفسه وفي قومه، وكان فيهم شريفا، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب قام فقال: أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، وصنع المنافق ما صنع في أحد، فقام يفعل كما كان يفعل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس يا عدو الله، لست لهذا المقام بأهل، قد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأني قلت هجرا أن قمت أشدد أمره، فلقي رجلا من الأنصار بباب المسجد فقال: ويلك ما لك؟ فقال: قمت أشدد أمره، فقام رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني كأنما قلت هجرا، فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المنافق: "والله ما أبغي أن يستغفر لي".
﴿وكم أهلكنا﴾ بما لنا من العظمة، ولما كان المراد التعميم، أثبت الظرف عريا عن الجار، وأكد [الخبر -] بإثبات من بعده فقال: ﴿قبلهم من قرن﴾ كانوا أشد منهم شدة، وأكثر عدة، وأوثق عدة، فلم يبق إلا سماع أخبارهم، ومشاهدة آثارهم؛ ثم قال تصويرا لحالهم، وتقريرا لمضمون ما مضى من مآلهم: ﴿هل تحس منهم من أحد﴾ ببصر أو لمس ﴿أو تسمع لهم ركزا﴾ أي صوتا خفيا فضلا عن أن يكون جليا، فقد ختمت السورة بما بدئت به من الرحمة لأوليائه، والود لأصفيائه، والنعمة للذين خلفوا بعدهم من أعدائه، بعد الرحمة للفريقين بهذا الكتاب بشارة ونذارة فحلت الرحمة على أوليائه، وزلت عن أعدائه والله الموفق.