لقد كان فيلسوفًا هشًا! بتعبير البعض.
كثير ممن يحسب على التنظير في العالم العربي عندما يتعرف على تراجعات فوكوياما خلال ١٠ سنوات، ينتابه شعور بالعزة لما هو عليه مما يسميه ثباتًا، بل قد يعتبر تلك التراجعات من قبيل الهشاشة المعرفية.
يتناسى كثيرون مدى مساهمة فوكوياما فيما يعيشه العالم اليوم رغم التراجعات، فبين كتابه نهاية التاريخ ١٩٩٤ وكتاب بناء الدولة ٢٠٠٤ عشر سنين، وبين الأخير وبين كتاب الهوية ٢٠١٨ ما يقارب ١٤ سنة، وهي فترات قصيرة راجع خلالها في كل كتاب متأخر ما طرحه في كتبه المتقدمة، ولكن!
تراجعات فوكوياما لا تعني فشل أطروحاته أو هشاشتها، بقدر ما تعني عدم تحقيق السياسات المبنية على أفكاره الجدوى الكاملة، ومع ذلك بعد ١٩٩٠ توسعت بشكل كبير مشاريع بناء الديمقراطيات، لدرجة أن أكثر الدول التي تراها شمولية مثل كوريا الشمالية تنتسب للديمقراطية، وبات التغير نحو التعامل مع الصراعات السياسية متجهًا إلى وصفها بالخلافات الإدارية والاقتصادية، لا صراعات قيم، أي أن الصراع الأيديولوجي تراجع إلى حد ما بعد (نهاية التاريخ ١٩٩٤) وهذا ما ساهم في توسع السياسات التقنية على حساب الصراعات الأيديولوجية، وأدرك هذا ألكسندر دوغين، وعبر عن جوهر الصراعات ما بعد الحرب الباردة بأنها تجاوزت مركزية الأيديولوجيات كما في كتابه (النظرية الرابعة ٢٠٠٩).
وفيما يتعلق بأثره على عالمنا العربي، فمن السياسات التي أسهم فوكوياما في تطويرها، سياسة التمويل المشروط من البنك الدولي لعديد من من منظمات المجتمع الدولي، فمنذ ١٩٩٤ غيرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سياستها، وبات دعم الديمقراطيات متجها نحو المجتمع المدني بدل الأحزاب السياسية، ضمن إطار دعم الفاعلين غير الحكوميين، وجرى بين سنتي ١٩٩٤ و٢٠١٠ تخصيص أكثر من ٨ مليار دولار لدعم المنظمات المدنية والحقوقية في دول كثيرة!
في تونس جرى دعم ما يزيد ١٣٠ منظمة خلال عشر سنوات، بناء على نفس الأفكار، وكانت الأهداف المباشرة تقوية كل من حرية التعبير وحماية الأقليات الدينية والعرقية والجندرية وتمكين المرأة إضافة إلى مكافحة خطاب الكراهية والتطرف ونحو ذلك، ما تنمذج في تكوين اتجاه عام يتعرض بالنقد لقوانين الميراث وفق ما سمي بمساواة النوع، وتجريم الزواج المبكر، ودعم المثلية، وتوجت هذه الجلبة بنزع عبارة (الإسلام دين الدولة) من الدستور التونسي كما جرى مؤخرًا.
وهذا جزء من ترجمة أفكار فوكوياما كسياسات على أرض الواقع في أراضي عربية وإسلامية، فما لقيته أفكاره في الوسط الغربي يتجاوز ما سبق، وأفكار مثل التوجه نحو شرعية الأداء بدل الشرعية الثورية مثل تقييم الحكومات حسب قدرتها على تقديم الخدمات بدل النظر في شرعيتها الثورية والتاريخية، وذلك باعتماد مؤشرات ترد بشكل دوري في تقارير البنك الدولي ومنظمات عالمية متنوعة، فمثل هذا كان مبنيًا على جزء واسع أفكاره.
وكثير ممن يمكن أن يصفه بالهشاشة المعرفية أو النظرية، لا يرى مدى مساهمات أطروحاته لا في بناء الدول الغربية وحسب، بل في مدى تأثير السياسات التي ساهمت أفكاره في تطويرها حتى في عالمنا العربي، ومع ذلك تجد بين الكتاب والكتاب أقل من عشر سنين، ويتراجع عن أفكار، وينتقد أطروحات له سابقة، بكل روح مرنة.
وتجد عندنا من لا يزال يلوك نفس الشعارات السياسية التي خمرت كخواطر قبل قرن، إذا بلغه أن مفكرًا غربيًا راجع أطروحته، صك على شفتيه ضاحكا كأنما أمسك الغرب متلبسا بالجهل وهو يعيش آثار تلك الأفكار ويدافع عن بعضها أيضا ويدعو لها غير عارف بجذورها، يشعرك أن الفضيلة هي ألا يتراجع تيار عن فكرة قط، إلى أن يطل قرن ثان فيقع على وعيه استيعابها، ونحن في بيئة تقدس العناد وتفكر بمنطق حزبي لا بمنطق علمي، لذا تضحى المراجعات وصمة عار فيها.