Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Труха⚡️Україна
Труха⚡️Україна
Николаевский Ванёк
Николаевский Ванёк
Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Труха⚡️Україна
Труха⚡️Україна
Николаевский Ванёк
Николаевский Ванёк
شريف محمد جابر avatar

شريف محمد جابر

ما أوسع الكلمة .. ما أضيق العالم
TGlist reytingi
0
0
TuriOmmaviy
Tekshirish
Tekshirilmagan
Ishonchnoma
Shubhali
Joylashuv
TilBoshqa
Kanal yaratilgan sanaDec 29, 2015
TGlist-ga qo'shildi
Mar 26, 2025

"شريف محمد جابر" guruhidagi so'nggi postlar

والأمر الآخر المهم الذي يجب على النّاس إدراكه، أن فكرة عدم الاختلاط ليست أمرًا عبثيّا لا معنى له وخصوصا في الأماكن التي يزدحم فيها الناس ويحتكّون ببعضهم بعضًا، ومن يصلّي في المساجد الكبيرة في البلدان التي لا تأبه بقضية الاختلاط مع الأسف يدرك الحرج الشديد الذي يتكرر كل يوم آلاف المرّات عند دخول الجنسين وخروجهم من باب واحد أو اجتماعهم في ساحة واحدة، حيث تضطر النساء إلى الانحناء، وحيث يخرج الناس أفواجًا لارتداء الأحذية، وحيث تحتكّ الأجساد ويحدث ما لا يرضي الله ولا يرضي من همُّه اجتناب الحرام وما يؤدّي إليه أو يفتح أبواب الحرج. فالحاجة إلى منع الاختلاط حاجة واقعية لا يشعر بها إلا من اتّخذ الإسلام منهجًا للحياة ومرجعية عليا تحدّد له نظام القيم والعلاقات.

أما النقاب فلا حاجة للقول بأنّ إيجابه أو استحبابه مذهب لعدد من المذاهب الفقهية المعتمدة، وبأنّ عادة نساء الشام طوال قرون كانت تغطية الوجه بالنقاب قبل هيمنة العلمنة على حياة المسلمين في الشام وغيرها!

فإنْ قيل: هذا الإرث القديم لا يلزمنا اليوم في عصرنا الحديث، ونحتاج إلى اجتهادات جديدة تلائم واقعنا واختلاف مجتمعاتنا؛ فحينئذٍ تنقلب الصورة تمامًا، ويصبح المعترضون هم أصحاب "الإسلام الحديث" الوافد المخالف للإسلام الشامي الراسخة جذوره في المجتمع والتاريخ!
عن خرافة الإسلام الشامي الوسطي المعتدل الجميل..

فلنكن صرحاء، مشكلة كثير من المسلمين مع النقاب والاختلاط ليست مشكلة إسلام "سلفي" أو "وهّابي" حديث يريد أن يفرض نفسه في مقابل إسلام "شامي" أو "أزهري" أو "زيتوني" قديم موغل في التراث له سمت معتدل.. هذه الصورة التي أعلم أن كثيرًا من المسلمين يعتقدها وهمٌ كبير وزيفٌ عريض!

المشكلة الأساسية ببساطة أننا نعيش في عصر له قيمُه العلمانية الغربية المهيمنة، خصوصا فيما يتعلّق بالمرأة، وهي تشتدّ في العقود الأخيرة وتحديدا في عصرنا الراهن، ولا مجال للمسامحة فيها، وقد غُذّيتْ بها عقول الأجيال التي هي اليوم بين الشباب والكهولة والشيخوخة في المدارس والإعلام وغيرها، حتى غدت من أبجديات تصوّرهم عن المرأة والمجتمع، ويصعب على هؤلاء المسلمين الذين رضعوا هذه الأفكار أن يتقبّلوا النماذج المتصادمة مع هذا التصوّر الحضاري الغربي العلماني الليبرالي، وهم في الوقت نفسه يحبّون الإسلام ويحبّون ثقافتهم وتاريخهم، ولهذا يحاولون السكون إلى هذا الوهم السطحي الذي يقدّم لهم حلًّا سحريًّا فيقول إنّ شيوع النقاب وتحريم الاختلاط آراء حديثة متطرّفة "وافدة"، وإنّ الإسلام التراثي الراسخ بريء من ذلك!

وأقول ابتداء: لستُ ممّن يرى وجوب النقاب، بل لدي إشكالية مع من يجعل الدعوة إليه من أولويات الدعوة في عصرنا. بل وأجد شيئًا من الغلوّ لدى بعض من يتناول مسألة الاختلاط، وأحيانًا شيئًا من نقصان الحكمة والرُّشد في كيفية تناول هذه القضية وإدارتها في المجتمعات الحديثة.

لكن هذا كلّه شيء، والزعم بأنّ النقاب وشيوعه مع تحريم الاختلاط أمر جديد غريب على المجتمع الشامي أو غيره من مجتمعاتنا العربية المسلمة شيء آخر تمامًا..

فابتداء لا يوجد شيء اسمه إسلام شامي أو أزهري أو زيتوني أو غير ذلك.. هناك إسلام واحد، وفي المسائل الفقهية المختلف حولها هناك مذاهب فقهية راسخة انحصرت في غالب العصور في أربعة مذاهب مشهورة، وهذه المذاهب غير مرتبطة بقُطر من الأقطار، ولا تتغيّر بتغيّر الأعصار، خصوصا إذا كان أحد أسباب التغيّر هو هيمنة العلمانية على بلاد المسلمين في القرنين الأخيرين.

فإذا تسامحت المؤسسات الدينية مع عصرنا العلماني هذا وسوّغت بعض الأمور وابتدعت اجتهادات جديدة فهذا لا يعني أنّ هذه الحالة المتردّية تمثّل الإسلام في بلاد المسلمين، بل على العكس تعتبر هذه انتكاسات، وما يسمّى "الإسلام الشامي" أحرى أن يسمّى "الإسلام البعثي"؛ إذ كان عداؤه لمظاهر التديّن التي ألفَتْها الشامُ على مدى قرون منذ الفتح نابعًا من هذه المرحلة البعثية العلمانية لا غير!

كما أنّ رموز المذاهب الفقهية الأربعة وأئمّتها غير مرتبطين بقُطر، فالشافعي الحجازي المولود في غزة يشيع مذهبه في الشام وماليزيا ومصر وغيرها. ومالك المدني مولدًا ووفاة بغير رحلةٍ علميّة شاع مذهبه في صعيد مصر والسودان والمغارب، وهكذا.. الأمر غير مرتبط بقُطر، بل مرتبط بحالة فقهية علمية متفاعلة تجد في البلدان من يتبنّاها فيكتب اللهُ لها الشيوع.

وبما أن الحديث الآن عن الشام، وعن الاستياء من منع الاختلاط في المسجد الأمويّ بين صفوف المتأثّرين بالواقع العلماني الذين ألفوه مذ تفتّحوا للوعي؛ فلا بد من القول بأنّ منع الاختلاط في الأصل حكم شرعي ثابت في السنّة، وإذا حصرنا الأمر في المساجد نجد هذا الحديث الواضح في صحيح البخاري عن هند بنت الحارث: "أنّ أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلّمَ قام النساء حين يقضي تسليمه ومكث يسيرا قبل أن يقوم". قال ابن شهاب: "فأرى والله أعلم أنّ مُكثه لكي ينفذ النساء، قبل أن يُدركَهُنّ من انصرف من القوم" (صحيح البخاري).

ونجد هذا الأثر الواضح في سنن أبي داود عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "لو تركنا هذا الباب للنساء"، قال نافع: "فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات"، وروي مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، غير أنّ أبا داود رجّح وَقْفه على عمر. وفي رواية عن نافع: "أنّ عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء" (سنن أبي داود).

ولن أدخل في نقاش فقهي حول الحكم المستنبط من هذه الروايات، فالقوم يرفضون مجرّد فكرة تقييد اختلاط الرجال بالنساء في المسجد، ومجرّد فكرة تخصيص مدخل للنساء وآخر للرجال، وهنا المحكّ. والواجب على هؤلاء أن يدركوا بأنّ ما يرفضونه له أصل راسخ في الدين وفي ممارسة خير القرون وكلام أئمّتهم، وسيجدون في فقه المذاهب الأربعة ما ينهى عن الاختلاط ويشتدّ في ذلك، فالأمر ليس وليد فقهٍ جديد أو متشدّدٍ كما يزعمون زورًا!
انتشار مظاهر التديّن في مختلف المجالات وتحديدًا في المساجد والدروس الشرعية والحجاب ومنع الاختلاط والمبادرات المجتمعية أمر جميل يفرح له الإنسان، خصوصا في البلدان التي ضُيّق فيها على المسلمين كثيرًا وحُرموا فيها من أبسط حقوقهم.

لكنّ الانشراح لهذا الانتشار الديني المجتمعي فحسب والغفلة عن ضرورة تطوير حماية له، وضرورة توسيعه ليغدو انتشارا في مظاهر الوعي والعمل السياسيّين وفي مفاصل الحكم والقوة.. هذا الانشراح المصحوب بالغفلة قاتل. فإذا رافق تلك الغفلة المضيّ في ركاب أمريكا وأذرعها في المنطقة، وخصوصا تلك الأذرع العربية الاستبدادية، فستكون النتيجة – عاجلًا أم آجلًا – محاربة الدولة لهذا الانتشار الديني المجتمعي أو "تشذيبه".

والسبب بسيط: أنّ كل انتشار ديني حقيقي في المجتمعات المسلمة سيؤدّي بالضرورة إلى نشأة نواة حضارية مفارقة للحضارة الغربية المهيمنة، وسيحمل في ثناياه رغبات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تتفق مع قيم تلك الحضارة الدولية ومواثيقها وإلزاماتها السياسية ومصالحها الاقتصادية. هذه هي طبيعة الإسلام، شاء من شاء وأبى من أبى، لا يمكنه التقوقع بصيغة دين طقوسي محصور في المساجد والمعاهد الشرعية والتديّن الفردي، إلّا بفرض الدولة لذلك بالحديد والنار.

فإمّا أن تنتبه الدولة ورجالها لذلك مبكّرا فتمضي مع المجتمع المسلم ودعاته وتحميهم وتتنازل عن بعض المسّرات التي تعد بها القوى الإقليمية والدولية، وإمّا أن تمضي مع تلك الوعود والمسرّات وتتجاهل المضيّ مع الانتشار الدعوي وحمايته وتمكينه ممّا سيوصلها إلى مكافحة ذلك النموّ الديني المجتمعي والعمل على تشذيبه وملاحقة رموزه أو سجنهم أو اضطهادهم في ظلّ الضغوط الدولية.

هذا هو درس الدولة القومية العربية ما بعد الاستقلال الذي حمله القرن الماضي، بصرف النظر عن توجّه نخبتها، وتجاهلُه وعدم الاكتراث به من طرف النخبة الحاكمة ومن طرف القيادات الدينية والاجتماعية هو خلل كبير يؤدي إلى إعادة إنتاج منظومة الطغيان وإنْ بوجوه مختلفة!
رؤية 2030 السعودية لا يمكن أن تكون مصدرا لإلهام أحد يحترم نفسه وأمّته وحضارته، فرغم محاولة هذه الرؤية تنويع الاقتصاد وعدم الاقتصار على النفط، لكنّها تتجاهل بشكل واضح بناء قاعدة صناعية كما تفعل الدول التي تحترم نفسها، وبعض تلك الدول تمتلك من الأموال والمقدّرات أقل بكثير مما تمتلكه السعودية، ومع ذلك تمكّنت من النهوض بقاعدة صناعية واعدة. أما السعودية، فهي تسعى الآن إلى تطوير السياحة والترفيه والاستثمارات المالية في مختلف القطاعات وزيادة ثقل الضرائب على الشعب لإيجاد بدائل عن النفط.

أين الصناعات الثقيلة وبناء قاعدة صناعية وتوطين التكنولوجيا من هذه الرؤية؟ لا يوجد..

والسبب: لا توجد لدى السعودية بنية تحتية كافية للصناعات الثقيلة، وهي تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد المنتجات الاستهلاكية من الخارج واستيراد السلاح من أمريكا وغيرها.

طيب ماذا كانت تفعل منذ أكثر من نصف قرن بالمال الغزير الذي يدرّه النفط؟

الإجابة غالبا: أنها كانت مكبّلة ومسلوبة الإرادة، فضلا عن متلازمة الاستبداد والفساد.. ومَن هذا الذي يجعل المكبّلَ مسلوبَ السيادة والإرادة نموذجًا ملهِمًا له؟!

والأزمة في الحقيقة لا تكمن في السياسيين الذين يصرّحون تصريحات خرقاء فحسب، بل تكمن أيضًا لدى شريحة من الشعوب العربية التي ترى في نماذج دول الخليج المكتنزة بالمال مع فقدانها للسيادة مثالًا يُحتذى.

والواجب على النخب أن تبثّ في الشعوب بأنّ حاجتها إلى الاستقلال والسيادة والعزّة والكرامة ليست أدنى من حاجتها إلى المال والغذاء والتنمية، بل لا تكون الثانية إلا بتحقيق الأولى، ولا تتحقق الأولى بجدارة إلا بوجود رؤية راسخة في الفطرة والضمير تنبثق عن الشريعة، فقد جربت هذه الشعوب منذ نحو مائة عام مختلف الرؤى والمشاريع النهضوية المبنية على غير الشريعة، فباءت جميعها بالفشل، ولم يكن سوى الشريعة ما يحمل أسس الاستقلال الحقيقي ورفض الاستبداد والتبعيّة والرغبة في بناء القوة التي تحمي الأمة وتحفظ دينها وكرامتها ومقدّراتها.
ولنأخذ مثالا من السيرة ليتّضح المقصود: فالرسول صلّى الله عليه وسلّم حين هاجر إلى المدينة لم يكن في البداية متمكّنًا فيها غاية التمكين، بل نَصَره وجهاء من الأوس والخزرج، وبقي وجهاء آخرون معارضون لهذا الحكم الجديد، وكانت هناك فئات قوية محصّنة من اليهود (قريظة وخيبر وبنو قينقاع وبنو النضير) تعيش ضمن هذه الدولة الوليدة وتعاديها من الباطن وتتآمر عليها، وهناك فئات من الأعراب فيها نفاق وفيها ضعف في الإيمان، إلى جانب التحدّيات الخارجية المتمثّلة بتحالف قوى الإقليم (الأحزاب).. فكيف تصرّف عليه الصلاة والسلام؟ (والعبرة هنا بجوهر التصرّف ومنهجه لا بالتفاصيل والأحداث)، هل مضى في تقريب المنافقين من السلطة؟ بل كانت قوة دولته قائمة على هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار، بها انتصر على جميع التحدّيات. صحيح أنه هادن بعض الفئات والقبائل، وتجاهل المنافقين حينًا، وكتب صلح الحديبية، ولكنه كان يحمل منظومة ورؤية مغايرة للأوضاع القائمة حوله في القبائل، منظومة متفوقة أخذ يبنيها مع القاعدة الشعبية الراسخة التي تؤمن بها شيئا فشيئا، وأخذ يخطو نحو تطبيقها شيئا فشيئا بوضوح ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

لم يدفن هذا المسار ليمضي في مسار مهادنة القوى الداخلية والخارجية، وبناء نظام تشريعي واقتصادي واجتماعي مرتبط بالأنظمة القبلية حوله ولا يختلف عنها إلا بخصوصية المكان، مع تنصيب نفسه ملكًا وتقريب أبناء أسرته من السلطة كما تفعل القبائل.. بل أسس عليه الصلاة والسلام حكمه على هوية واضحة، وجعل الشريعة أساسا لهذا الحكم، ووضع بذور النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي من البداية، واستعان بالقاعدة الشعبية المؤمنة بهذا النظام واستشارها في كل المحطات والتحدّيات مع مراعاة الفئات المناوئة وكسب بعضها والتخلص من أخرى بسياسة حكيمة.. ولاحقا صار يراسل ملوك فارس والروم والحبشة بحقيقة رسالته يعرضها عليهم مع الفارق الكبير في ميزان القوى بينهم وبينه. أي أنه لم يُخف في أي محطة من محطات دولته حقيقة رسالته ولم يَخَف، ولم يتماهَ مع النظام القائم، ليس لأنّه نبيّ فحسب، بل لأنّه يدلّنا على الأسس والمبادئ والقيم التي ينبغي لأمّته اتّباعها حين يريدون إعادة التأسيس لأوضاع حكم راشدة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).

والذين يقولون: إذا فعلنا ذلك ثار علينا المجتمع الدولي وتلك الفئات المعادية وانهدم المشروع.. الذين يقولون ذلك يغفلون الجانب الغيبي الذي هو نصر الله الموعود المشروط باتباع دينه والتمسّك به كما دلّت أكثر من آية في كتاب الله، والتعامل بجدية مع هذا الجانب هو التحدّي الكبير الذي يواجه الحركات الإسلامية المعاصرة. والأزمة الكبرى أن كثيرا من هذه الحركات تتعامل مع الجانب الغيبي ضمن الشروط الخاطئة وفي التوقيت الخاطئ، وقد رأتْ بأم عينها كيف أن انتظار النصر وبثّه بثقة مع الإخلال بأسبابه الواقعية وشروطه الشرعية قد أدى إلى الانهيارات والهزائم المتتالية، ورأت في التاريخ والواقع المعاصر كيف أن التمسّك بشروط النصر من شريعة وولاء مع أخذ بالأسباب الواقعية يؤدي إلى تمكين الله لعباده المؤمنين.
فوجئ أهلنا في سورية بأنّ من قال لهم "وأفطرنا على طبق الكرامة" في عبارة شعبوية ثورية يجلس في مضافة أحد أزلام النظام السابق المجرمين من رجال العشائر.

وانقسم الناس بين من أصيب بإحباط من تصرّف الوزير والحكومة الجديدة، وبين من أخذ موقف التسويغ والدفاع.. وفي نظري أنّ القضية أعمق من ذلك، وتحتاج إلى تفكير جاد، ولا أقصد هذه الحادثة تحديدًا، بل "منطق الدولة" الذي تتصرّف به الحكومة الجديدة كما صارح أحمد الشرع الشعب من البداية، والذي يختلف عن "منطق الثورة" بحسب كلامه، فتلك الأبيات الثورية التي نطق بها الوزير سابقًا تنتمي في الحقيقة إلى "منطق الثورة" الذي تحدث عنه الشرع، وأمثال هذه الزيارات لبعض النافذين حتى لو كان لهم ماضٍ تشبيحي تنتمي إلى "منطق الدولة".

والحقيقة أنّ هناك شيئا أعمق أريد التحدّث عنه، وهو عدم إدراك الناس في سورية – وفي غيرها من البلدان العربية - بأنّ العبرة بالمنظومة الحاكمة لا بِنيّة الأشخاص وتوجّهاتهم السابقة، بكلمات أخرى: السؤال ليس: هل هؤلاء الذين يحكمون جيّدون ومخلصون أم سيضحكون علينا؟ هل "يشبهوننا" أم لا يشبهوننا؟

ليست هذه هي القضية، ولنفترض بإحسان الظنّ أنّهم جيّدون مخلصون (وهذا الظاهر على معظمهم)، لكن الإشكالية أنّ المنظومة تجرف معها الصالح والطالح، ولعلّ لرأسهم – الشرع – أحلام تداعبه حول الدين والشريعة، وهو ما يظهر على سمته وبعض تصريحاته وماضيه، لكنّ هذه الأحلام سرعان ما ستتلاشى شيئا فشيئا وتذوي مع الإصرار على اعتماد "منطق الدولة" وريثة الاستعمار، وعدم التفكير جدّيا في تغيير أبرز أسسه المنتجة للاستبداد والتبعية. وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى إرادة قوية ويحتاج قبل ذلك إلى رؤية راسخة، وهذه الرؤية لا يمكن أن تأتي إلّا من المزاوجة بين الخبرة الواسعة بالتاريخ والواقع وبين العلم الراسخ بالشريعة وإمكانيّاتها (للتفصيل يراجع مقالي "الحكم الإسلامي والدولة الحديثة: بين الاتفاق والاختلاف").

مشكلة كثير من النّاس أنهم لا يدركون عمق التغيير الذي كان مطلوبًا في النظام السوري السابق، فالمشكلة ليست مشكلة نظام طائفي كان يحكم بالحديد والنار فحسب، فهذه كانت كارثة كبيرة حقّا لكنّها غشّت على مشكلة أخرى عميقة وجذرية وبقاؤها كارثي على المدى البعيد، وهي مشكلة منظومة "دولة" منتِجة للاستبداد بسبب الطريقة التي تأسست عليها، وأعني هنا الدولة العلمانية الوطنية التي احتفل أهل سورية بعيد جلائها أمس، غير مدركين أنّ خلف هذه الأعلام المرفرفة بالاستقلال والحرّية من الفرنسي المحتلّ تكمن وصفة خطيرة زرعها المحتلّ في أتراس الدولة العميقة التي لا تُرى بادي الرأي، وأبرز أركان هذه الوصفة أن هذه الدولة "علمانية" تتنكّر للشريعة – سوى في الأحوال الشخصية وبعض الشعارات – وتجتمع على هوية وطنية زائفة غير قادرة على أن تكون محور استقطاب مستقرّ لأنها هوية مفروضة غير أصيلة لم تنشأ بشكل طبيعي، فتُولّد نتيجة لذلك الأزمات الداخلية المتتالية (للتفصيل يراجع مقالي "لماذا يجب أن نتخلّى عن هويّاتنا الوطنية؟").

وأهل سورية أمام وصفتين: وصفة الدولة ووصفة الشريعة. وحتى لا يظنّ القارئ أنني أتحدث عن نموذج حِدّي يطالب أهل سورية بما لا يُستطاع الآن فما أقصده هو المنظومة المحرّكة: هل هي الشريعة وغاياتها الثابتة في الكتاب والسنّة حتى لو عجزوا عن كثير من الأمور في البداية؟ أم هي محاولة النجاة بالدولة والسلطة باتباع "كتالوج" النجاة الذي تفرضه الدول الكبرى أو توحي به؟ والذي يتضمّن عقد تحالفات مع دول وجهات داخلية وخارجية مشبوهة أو مجرمة، وإقرار مبادئ قانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية علمانية لا تتماشى مع الدين.. وقد يحمل صاحب الشريعة المخلص هذا الكتالوج تحت ذرائع الاستضعاف وفي "نيّته" الشريعة بكل حب وإخلاص، لكن النيّة والحب والإخلاص وحدها لا تكفي مع الأسف، وعدم وجود الرؤية الراسخة والخطوات الجادة الأولية كفيل بطمر هذه "النية" الصادقة إلى الأبد!
أكثر ما يزهّدني في معظم من قرأ السيرة النبوية من المعاصرين وحاول استلهام "منهج" للتمكين من خلالها أنّهم يبحثون في السيرة عن "وصفة جاهزة" لتغيير الواقع المعاصر. وهؤلاء لا يدركون أنّ درس السيرة الأكبر هو أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان ابن زمانه وواقعه، يبحث فيه عن فرصه المتاحة، هذا مع التمسّك بخطاب الشريعة والدعوة إلى الله.

يحدثك بعضهم عن "مراحل" في السيرة ويتساءل: نحن في أي مرحلة؟ ويأخذ آخر "الحدث" الذي في السيرة ليحاولوا إعادة استنساخه، ويخبرنا ثالث بأنّ الواجب أن نبدأ كما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلّم في المرحلة المكّية، ويقول لك رابع: هذا لم يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم في طريقه إلى التمكين؛ لينفّرك عنه! وكل ذلك بافتراض وجود منهج ثابت مُمَرحَل للتغيير في السيرة لم يكن للواقع والظرف والبيئة دور في رسم معالمه!

وعوضًا عن التفكير في الواقع واقتناص فرصه وممكناته والبحث عن بدائله، أي واقعنا هذا بتضاريسه التي نعيش فيها.. عوضًا عن ذلك يغرق هؤلاء في النصوص ليتكلّفوا صناعة منهج "جميل" منها.

ويقيني أنّ الكثير ممّا يُطرح اليوم تحت شعار العودة إلى القرآن والسنّة والسيرة يحتاج إلى مراجعة وترشيد، فكثيرًا ما تكون عودة معوجّة، لأنّ دروس السيرة تعطيك قيمًا ومناهج ومبادئ عليا تستهدي بها وتعتبر، لكنها لا تخبرك كيف تتصرف الآن في لحظتك الراهنة، وحين تحاول البحث عن إجابات وحلول للواقع السياسي الحالي من السيرة عوضًا عن التفكير بهذا الواقع ملتزمًا بأحكام الشريعة ومستهديًا بالسيرة ومستفيدا من التجارب السياسية القديمة والحديثة؛ يبدأ التكلّف ولَيّ النصوص أو الاستشهاد القاصر بها!

أنت المطالب بتقدير مدى نفع فعلٍ ما أو ضرره في واقعنا الراهن هذا، هل سيحقق المصلحة للأمة أم سيحقق المفسدة؟ وفي قلبك أحكام الشريعة الثابتة لكل عصر تأطُر فعلك. وستتعلم من السيرة كيف مارس الرسول صلّى الله عليه وسلّم – المؤيّد بالوحي – وصحبه هذه الممارسة الإنسانية الصعبة، ستتعلّم كيف كانوا واقعيين، يحسبون حساب الواقع مع وجود الوحي الذي يرشدهم بينهم.. فكيف بنا نحن وقد انقطع الوحي عن أن ينزل اليوم في أحداث بعينها ليخبرنا ماذا نفعل؟!

والمؤسف أن نترك درس السيرة الأكبر هذا، ثم نستنطق النصوص بما نريد أن تخبرنا به أو لنرقّع أفعالنا وتوجّهاتنا! ونترك ساحة الفاعلية الواقعية للبراجماتيين الذين لا يأبهون أَوافَق فِعلهم السيرة أو الشريعة أم لم يوافق، بل ينظرون إلى فرص الواقع التي تزيد من سلطتهم بلا مبادئ ولا أخلاق!
كل تجارب الإسلاميين وغيرهم في الوصول إلى السلطة ومحاولة تطبيق الشريعة أو تأسيس مشاريع تمكين ونهوض في ظل النظام العالمي الجديد هي مادة خصبة للدراسة والتعلم والبناء عليها، ومع الأسف قليلا ما يحدث ذلك، حيث يشيع تجريب المجرب وتندر التجارب الواعدة التي تحافظ على غاية الشريعة مع القدرة على التعامل مع هذا النظام العالمي دون انصهار في معاييره وأنماطه.

وإذا حدث التعلّم فغالبا ما يكون مصحوبا بتكتيك إلقاء عبء الشريعة إلى أجل غير مسمى، حيث تغيب قضية الشريعة عن القيادة وتتكفل القواعد الشعبية بالتبشير بها وإلقاء عبء تنفيذها على المجتمع وحشد مسوغات تغييبها (في الآن نفسه!) أو مسوغات الانخراط في علاقات وطيدة مع الأنظمة الجاهلية المعاصرة، وغالبا ما تتمحور التسويغات حول مسألة الاستضعاف، وتستمر إلى ما بعد الاستضعاف لأن التماهي الطويل يكون قد ضرب المشروع في مقتل وباتت الهوة بينه وبين الشريعة بعيدة جدا، بعد أن يكون قد تورّط بتفاهمات دولية سياسية واقتصادية بل واجتماعية تتعارض مع حاكمية الشريعة.

والحقيقة أن أزمة التماهي مع معايير النظام الدولي ستظل إحدى أبرز الإشكاليات التي تواجه الحركات الإسلامية المعاصرة، فهي تتجاوز ضرورة مراعاة الواقع وموازين القوى فيه ولغة الدبلوماسية إلى تبني الأنماط السياسية الجاهلية المعاصرة وذوبان المشروع أو غيابه ابتداء والتحول شيئا فشيئا إلى "ترس" في النظام الدولي.
المراسم المخزية في افتتاح أحد المجمعات التجارية في رام الله على ما فيها من قلّة ذوق ودم، حيث يُقتل الأطفال والأبرياء على مرمى حجرٍ منهم في القطاع ويعيش أهله حياة مؤلمة وظروفًا مأساوية في الخيام وبين الركام تحت القصف.. فهي تعكس أيضًا أزمة الأيديولوجية الوطنية المتجذّرة في شعوبنا العربية، ولن أفوّت فرصة بإذن الله للتدليل من الواقع على كارثية هذه الأيديولوجية التي يراها بعضنا أمرا سهلا يسيرا لا يحتاج إلى تغيير.

فكثير من المتابعين من خارج فلسطين نسبوا هذا الفعل في رام الله إلى "الفلسطينيين" ونسبه بعضهم إلى "أهل الضفّة"، وهنا خرجت مقولات تعميمية مثل: إذا كان الفلسطينيون يحتفلون ولا يبالون فلماذا تعيبون علينا الاستمتاع بمهرجان "موازين" في المغرب وأمثاله في جزيرة العرب وغيرها من المهرجانات التي تعزف أنغامها على وقع أنين الأطفال في الخيام والدماء السائلة بين الركام؟!

وهو سؤال حقير ولا وجاهة فيه، ومن يرى فيه وجاهة أسير للأيديولوجية الوطنية التي ترى "الفلسطيني" أولى بالتعاطف مع أهل غزة لأنه مثلهم، وحتى لو قيل: هو الأقرب جغرافيا فغير صحيح، فإذا كانت العبرة بالأقرب فإنّ مصر أقرب جغرافيا للقطاع، وإذا كانت العبرة بالأقدر على إنهاء الحرب فمصر أقدر بأضعاف مقارنةً بشعب صغير يعيش ممزّقًا في كنتونات الضفّة المحاصرة.

ونعود إلى مراسم الافتتاح المخزية في رام الله، فالله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {كلّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة}، ويقول تعالى: {ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى}، والمقصد أنّ الذي احتفل ولم يبالِ بدماء المسلمين (وليس بدماء شعبه) هو الملوم، سواء كان في الضفّة أو في جزيرة العرب أو في مصر أو في المغرب أو في هونولولو! ومن احتفل وطبّل وزمّر ليس كل أهل الضفّة، فليُلَم هؤلاء الراقصون دون تعميم. ومن السفاهة تحويل الأمر إلى "نحن" و"أنتم"، أي إلى شعوب متخيّلة تحدّد الأقطارُ التي فرضها الاستعمار انتماءها ومسؤوليّاتها!

وقد سألني يومًا بعض الإخوة: لماذا تريدون التحفّظ على مظاهر الفرح العامة والانبساط للحياة الآن وقد كان السوريون يُذبحون طوال الثورة السورية ولم نرَ هذا التحفُّظ؟

قلت: كذلك كنت أفعل منذ عام 2011، وأنا أرى البراميل تنهال على أهلي المسلمين في سورية، والمذابح تحدث في سائر بلاد المسلمين. هذا التوجه المتحفّظ من الفرح والرقص والمبالغة في الاحتفال بأشياء دنيانا موقف قديم لا علاقة له بأنّ ما يحدث إنّما يحدث في قُطر معيّن "يخصّني".

فمن أراد لوم أحد على قلّة مبالاته بدماء المسلمين النازفة فليفعل دون إدخال اللوثات الوطنية الوضيعة، فهو بذلك يرسّخ الفُرقة والعصبية بين المسلمين من حيث يدري أو لا يدري!
أفكّر منذ أيّام في أولئك الذين يبخسون الكتابة، ويظنّون أن الذي يكتب لا يعمل، ويصمونه بمختلف الوصمات السيئة مثل "مجاهدي الكيبورد" و"أهل التنظير" وما شابه من أوصاف يجدونها محلّا للذمّ.

فجال في خاطري كيف أنّ الكتابة في واقعها، حين تكون رسالية وجادّة ومؤسَّسة على بحث ومتابعة، هي عمل وأيّ عملٍ. وهذا الذي يكتب عملًا أدبيًّا هادفًا أو كتابًا نقديّا أو بنائيّا أو مزيجًا من هذا وذاك فهو إنّما يجتهد ويتعب ويبذل الساعات كل يومٍ من أجل رسالة.. يحرم نفسه من الترف واللهو لغرض سام ورسالة هادفة.

وقد وقع أمامي اليوم كلام منسوب للكاتب الأديب وليد سيف عن سيناريو أدخله المستشفى! فتذكّرت أحوال الكتابة حين تشتدّ، والإرهاق الذي يصيب الإنسان أحيانًا حين يحرم نفسه الراحة والنوم في سبيل البحث والتنقيب والكتابة وتجويدها، وآلام الظَّهر الشديدة وضعف البصر المزعج واحمرار العينين وألمهما والأمراض المتنوّعة التي تؤلم البدن في سبيل العكوف على القراءة والكتابة.

الكتابة والتنظير فعل، وهو مبني على جهد سابق من قراءة وبحثٍ ومتابعة للواقع ومناقشة للناس وغير ذلك من الأعمال التي تأكل أوقات الإنسان فيما يرضي الله إذا كانت هذه الكتابة هادفة وتحمل رسالة سامية جادّة.

بل إنّ ممّا ينقص أمّتنا هو هذا التنظير والنقد والتأصيل الذي يراه بعضهم – مع الأسف – ترفًا أو عرضًا قريبًا أو ثرثرةً يقولها الإنسان في أوقات فراغه وهو عاطل عن العمل.. لا يا صديقي، مَن مارس الكتابة الجادّة وأنفق السنوات مكبًّا على المطالعة والتدقيق والبحث والتنقيب سيخبرك حالُه بقصّة أخرى هي أبعد شيء عن الثرثرة والترف الذي تظنّه وأنت تقلب صفحات مواقع التواصل فارغًا من كل هدف.. وبعض هؤلاء لا يصبر أن يقرأ منشورا من 500 كلمة لأنّه يُتعبه ثم يحدّثك بخفّة عن سهولة التنظير!

وكل عمل يمكن للمسلمين القيام به ينبغي أن يكون على بصيرة ورُشد وعلم كما أخبرنا الله في كتابه، و"العلم قبل القول والعمل" كما قال الإمام البخاري رحمه الله.
من آفاتنا المعاصرة أننا نستحضر الشريعة وضرورة التحاكم إليها واتخاذها مرجعية في مسائل نحتاج في الواقع إلى تأييدها، أي أن الاستدلال بالشريعة والدين هنا يأتي عاضدًا لتوجّهاتنا في الدنيا، سواء في تأكيد حكومة ما أو حركة ما أو عرف مجتمعي نحبّه أو مواجهة عسكرية نؤيّدها.. هنا تأتي الشريعة واضحة يُصدع بها بكل قوة ووضوح!

لكنْ حين تصدع الشريعة في الكتاب المتلوّ آناء الليل وأطراف النهار بأشياء غريبة عن واقعنا ومجرياته، في مسائل تخالف مخالفة شديدة ما جرت عليه أعراف الناس التي باتت أعرافا غربية بفعل العولمة، نسمع صوت صرصار الحقل.. لا أحد يصدع مع الشريعة التي يقرؤها في الكتاب والسنّة. وإذا تجرأ بعض المسلمين في طرح هذه القضايا اتّهموا بالنظرية وعدم الواقعية!

فلنكن واقعيين ولنصارح أنفسنا: باتت الشريعة في حسّ كثيرٍ منّا "أداة" أكثر من كونها مضمونًا منشئًا للقيم والتصورات والأحكام. يمكننا الحديث بجرأة وقوة بأنّ القضاء على الاستبداد وتحقيق الحرية من الشريعة، وبناء الأوطان من الشريعة، والدفاع عن الوطن من الشريعة، والقيام بحقوق المواطنين وتحسين الاقتصاد من الشريعة.. وكل ما يفعله الناس جميعًا بصرف النظر عن ملّتهم من أمور البناء وحماية المجتمع: من الشريعة، ونستحضر من أجل ذلك الآيات والأحاديث..

طيب هناك أمور جاءت بها الشريعة وهي غائبة عن عالم اليوم، تخالف قيمه وأعرافه السائدة، لكنها واضحة في الكتاب والسنّة وغير قابلة للتغيير ماذا نفعل بها؟ من ينادي بها؟ من يسعى إلى تطبيقها يوما ما على الأقل؟ من يطوّر رؤية للوصول إليها في ظلّ أوضاعنا الصعبة؟ لا أحد.. صرصار الحقل مجدّدا!

هذه هي مشكلتنا مع الشريعة، مشكلة سطوة الواقع وعجزنا عن تطوير سطوة أخرى للشريعة كما كانت في قلوب الصحابة رضي الله عنهم، وفي قلوب من شققنَ مروطهنّ فاعتجرنَ بها. مشكلة الخشية والخيبة. مشكلة هروبنا من هذا الاختلاف الكبير في تصوّر الحياة ومهمة الإنسان على الأرض الذي تحمله الشريعة ويُغاير ما ألِفناه أو فُرض علينا وتربّينا عليه من تصوّرات وممارسات غربية معولَمة، فلجأنا إلى محاولة التوفيق، وتَخيُّر ما نراه يتفق مع الشريعة مما نمارسه بحكم الأمر الواقع ويمارسه الغرب معنا، لنخدع أنفسنا ونقول: أرأيتم، ها نحن نطبّق الشريعة!
معظم من يرفض الكلام حول ضرورة عدم إدخال المسلمين في مواجهة غير متكافئة تماما تؤدي إلى مقتلة عظيمة ومعاناة وفتنة مستمرّة دون تحصيل أي مصلحة، وأنّ حفظ دماء المسلمين من مسؤولية القائمين على الأمر.. معظم من يرفض ذلك يتحدث عن ضرورة التمسّك بالحقّ مهما أدّى إلى تضحيات وخسائر دنيوية، لأنّ الخسائر الدنيوية والتضحيات غير معتبرة عند وجوب العمل بالحقّ والوقوف ضدّ الباطل!

لكنّك لو سألتهم قبل سنوات والآن، لماذا لم تحكّموا شريعة الله حين تولّيتم الأمر لسنوات طويلة مع أنّها من صلب عبادة الله أي من صلب التوحيد أي من صلب "إحقاق الحقّ وإبطال الباطل"؟ لتذرّعوا بالمصلحة وبأنّ الغرب سيؤلَّب علينا وستتوقف المساعدات وتُفرض العقوبات وتُغلق المعابر..

فلنكن صرحاء، هؤلاء لا حافظوا على منهج ولا مصلحة، بوصلتهم – إلّا من رحم ربّك - ليست الشريعة تماما، وجزء كبير من معاناتنا هو عدم تمسّكنا ببوصلة الشريعة هذه التي فيها نجاتنا في السرّاء والضرّاء.

وأنا لا أذم من يتدرّج في إقامة الشريعة لمراعاة أحوال المجتمع الدنيوية وخوفًا من البطش ولعدم رغبته بالدخول في مواجهة غير متكافئة وهو ما زال ضعيفا، فهذا كله عندي من مقتضيات العمل بالشريعة.. لكنّي أرفض التناقض وخداع النفس والناس، فالذي يطبّق مبدأ في حالةٍ ويهدره في حالة أشدّ توكيدًا (كإقامة الشريعة والتحاكم إليها في الكبيرة والصغيرة) لديه التباس كبير في منهجه وفكره، وعليه مراجعة هذا الالتباس وتصحيح موقفه من الشريعة قبل الحديث عن النصر الأكيد الذي وعدنا به الله!
من أفسد المقولات التي شاعت بين الإسلاميين في العقود الأخيرة قولهم: إنّ المطلوب هو "سلامة المنهج لا منهج السلامة". والمؤسف أنّ معظم من رفع هذه المقولة أو أمثالها شعارًا له لم يحصّل سلامة المنهج ولا منهج السلامة! فإمّا أن يكون منهجه متّسمًا بالغلوّ وتكفير المسلمين واستباحة دمائهم وتعجّل قطف الثمار وتحفيز تكالب الأعداء، أو يكون ملوّثًا بالأيديولوجيا الوطنية والأفكار الغربية العلمانية سواء كانت يسارية ثورية أو ليبرالية أو غير ذلك، فكيف لمثل هؤلاء أن يتحدّثوا عن "سلامة المنهج"؟!

لكن الأنكى أنّ عقد هذه المفاصلة بين "سلامة المنهج" و"منهج السلامة" وهم كبير، فالحرص على سلامة النفوس المسلمة وحمايتها من القتل والبطش والتعذيب والتنكيل والسعي في حفظ كرامتها كي لا تذلّ وتظلّ معرّضة للفتن؛ هو جزء أصيل من المنهج الإسلامي، كما هو واضح في الكتاب والسنّة والسيرة.

وأحسب أنّ أصل هذا الكلام يعود لما كتبه الأستاذ سيد قطب رحمه الله في "الظلال" حيث قال: "إنّ على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها ويتحرّوا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحرّي من نتائج قد يلوح لهم أنّ فيها خطرًا على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتّقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيرًا أو قليلا. والله أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلّفين. إنما هم مكلّفون بأمر واحد؛ ألّا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق".

وهو كلام غير دقيق يعطّل فاعلية العقل البشري وتكليفه في تحرّي مصالح الأمة، ويغفل أهمية النظر في المآلات في الشريعة، هذا مع محبّتي للأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله وتقديري لما كتب وصحّح من مفاهيم كما يعلم كل من يقرؤني. وقد كتبت فصلًا كاملا عام 2015 يناقش هذه المقولة وأبعادها مع بيان أدلّة خطئها بعنوان "هل نحن مكلّفون بالنتائج"؟ ستجدونه في كتابي "الخطاب المريض".

رابط تحميل كتاب "الخطاب المريض":
https://t.me/sharefmg/119
يمكنك أن تعذر أحمد الشرع في غياب قضية الشريعة من خطابه وممارساته حاليا تحت مسوغات عديدة، ويمكن لغيرك أن يختلف معك وكل ذلك بأدب.

أما أن تجعله يقوم بشي تجديدي وبنمط سياسي حكيم لم يمارسه الإسلاميون فهذا في الحقيقة هراء، وما يفعله بحجة الاستضعاف (كما يتأول له محبوه لا كما يقول) فعله قبله إسلاميون كثر نعرف مصيرهم، الفارق الأساسي أنه امتلك تأسيس دولة جديدة بخلاف من سبقه من إسلاميي العالم العربي الذين انخرطوا في دولة قائمة لها أذرعها المعاندة لهم، وامتلك القوة العسكرية الأساسية.

وأقولها بصراحة ووضوح: لا يملك أحمد الشرع رؤية سياسية شرعية، ولقاؤه القديم المتداول حول تطبيق الشريعة الذي تطرق فيه إلى النقاب كلامه فيه هش ومكرر وضعيف ولا تجديد فيه بل فيه مغالطات. وليس فيمن حوله من مشايخ ومفكرين موالين لمشروعه صاحب رؤية سياسية شرعية ناضجة. وتجربته في إدلب لا تنبئ عن رؤية ناضجة في تطبيق الشريعة، بل ما يحدث من مواقف وتصريحات من رجال دولته السابقة في إدلب وشرعييها مقلق أكثر من كونه منبئا عن رؤية سياسية شرعية عميقة. كانت للمحرر ظروفه المتعددة التي حالت دون نشوء نخب سياسية وفكرية إسلامية على مستوى قيادة مشروع دولة إسلامية.

بل أكثر من ذلك، أظهر الشرع طوال مسيرته خلال الثورة وحتى الآن ميلا مقلقا للاستبداد والاستئثار، مهما تعددت مسوغات ذلك من محبيه، فهذا أمر لا تخطئه عين المتابع المنصف. كما أنه يمارس ما مارسه غيره سابقا من الاستعانة بالقوى النافذة (سياسية ومالية) حتى لو كان لها ماض تشبيحي مع النظام أو مواقف علمانية، وتعيين شخصيات إشكالية واتخاذ مواقف مرنة متساهلة بهدف كسب ود الغرب وخوفا من إسقاط التجربة، وهذا كله سبقه به آخرون ولا جديد.

النموذج الأقرب له والذي يبدو أنه يرشده هو نموذج أردوغان الذكي والذي يعرف من أين تؤكل الكتف، ولكن أردوغان وكما وضح مرارا لا يحمل مشروعا إسلاميا لإقامة الشريعة. فأحمد الشرع يجمع بين دهاء النموذج التركي وتنازلات النماذج الإسلامية الإخوانية في العالم العربي. هو أذكى منها لكنه مسبوق بذلك ولم يقدم جديدا، وما زالت تجربته في بدايتها، وافتقاده للرؤية الإسلامية والمشروع مع ميله للاستئثار بالحكم مع استعانته ببعض القوى القديمة ورؤس الأموال أيا كانت ملتها وغياب النخبة السياسية الإسلامية القوية الفاعلة عن الفعل المجتمعي.. كل ذلك مؤشرات مقلقة.

أما القول بأنه صاحب رؤية عميقة ومشروع ناضج والاستدلال على ذلك بملابس زوجته وما شابه من مظاهر المرونة فهو سخف.. وأنا لا أحب الحديث عن النساء وملابسهن، ولا أحب الخوض في نقد سلوك زوجة أحد فهو ليس من المروءة، لكن أن يصبح ذلك حديث الساعة ومحلا للاستشهاد على نضج وسعة أفق من قبل بعض الكتاب فهذا سفه يتنزه عنه العقلاء.
من أسباب الانتكاس الفكري والنفسي المعاصرة التي ساهم ببثّها دعاة ومشايخ ومفكّرون في العقود الأخيرة: عدم الاعتراف بالهزيمة. نحن قادرون على استخلاص "النصر" من كل حالة مهما كانت النتائج، وهذه حالة غير سويّة؛ لأنّك حين لا تعترف بالفشل والهزيمة لن تتعلّم من أخطائك، وستتعامل مع نفسك أنّك مرَكِب سائر بهدى الوحي، لا يضلّ ولا يشقى، وأنّك معصوم من الله ولن يخذلك الله كما لو كنتَ نبيًّا مبعوثًا برسالة!

Rekordlar

20.04.202523:59
9.8KObunachilar
04.12.202423:59
0Iqtiboslar indeksi
16.04.202520:07
27.5KBitta post qamrovi
20.04.202507:03
891Reklama posti qamrovi
21.03.202515:18
9.87%ER
16.04.202520:57
284.20%ERR

Rivojlanish

Obunachilar
Iqtibos indeksi
1 ta post qamrovi
Reklama posti qamrovi
ER
ERR
JAN '25FEB '25MAR '25APR '25

شريف محمد جابر mashhur postlari

20.04.202521:27
والأمر الآخر المهم الذي يجب على النّاس إدراكه، أن فكرة عدم الاختلاط ليست أمرًا عبثيّا لا معنى له وخصوصا في الأماكن التي يزدحم فيها الناس ويحتكّون ببعضهم بعضًا، ومن يصلّي في المساجد الكبيرة في البلدان التي لا تأبه بقضية الاختلاط مع الأسف يدرك الحرج الشديد الذي يتكرر كل يوم آلاف المرّات عند دخول الجنسين وخروجهم من باب واحد أو اجتماعهم في ساحة واحدة، حيث تضطر النساء إلى الانحناء، وحيث يخرج الناس أفواجًا لارتداء الأحذية، وحيث تحتكّ الأجساد ويحدث ما لا يرضي الله ولا يرضي من همُّه اجتناب الحرام وما يؤدّي إليه أو يفتح أبواب الحرج. فالحاجة إلى منع الاختلاط حاجة واقعية لا يشعر بها إلا من اتّخذ الإسلام منهجًا للحياة ومرجعية عليا تحدّد له نظام القيم والعلاقات.

أما النقاب فلا حاجة للقول بأنّ إيجابه أو استحبابه مذهب لعدد من المذاهب الفقهية المعتمدة، وبأنّ عادة نساء الشام طوال قرون كانت تغطية الوجه بالنقاب قبل هيمنة العلمنة على حياة المسلمين في الشام وغيرها!

فإنْ قيل: هذا الإرث القديم لا يلزمنا اليوم في عصرنا الحديث، ونحتاج إلى اجتهادات جديدة تلائم واقعنا واختلاف مجتمعاتنا؛ فحينئذٍ تنقلب الصورة تمامًا، ويصبح المعترضون هم أصحاب "الإسلام الحديث" الوافد المخالف للإسلام الشامي الراسخة جذوره في المجتمع والتاريخ!
20.04.202511:34
انتشار مظاهر التديّن في مختلف المجالات وتحديدًا في المساجد والدروس الشرعية والحجاب ومنع الاختلاط والمبادرات المجتمعية أمر جميل يفرح له الإنسان، خصوصا في البلدان التي ضُيّق فيها على المسلمين كثيرًا وحُرموا فيها من أبسط حقوقهم.

لكنّ الانشراح لهذا الانتشار الديني المجتمعي فحسب والغفلة عن ضرورة تطوير حماية له، وضرورة توسيعه ليغدو انتشارا في مظاهر الوعي والعمل السياسيّين وفي مفاصل الحكم والقوة.. هذا الانشراح المصحوب بالغفلة قاتل. فإذا رافق تلك الغفلة المضيّ في ركاب أمريكا وأذرعها في المنطقة، وخصوصا تلك الأذرع العربية الاستبدادية، فستكون النتيجة – عاجلًا أم آجلًا – محاربة الدولة لهذا الانتشار الديني المجتمعي أو "تشذيبه".

والسبب بسيط: أنّ كل انتشار ديني حقيقي في المجتمعات المسلمة سيؤدّي بالضرورة إلى نشأة نواة حضارية مفارقة للحضارة الغربية المهيمنة، وسيحمل في ثناياه رغبات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تتفق مع قيم تلك الحضارة الدولية ومواثيقها وإلزاماتها السياسية ومصالحها الاقتصادية. هذه هي طبيعة الإسلام، شاء من شاء وأبى من أبى، لا يمكنه التقوقع بصيغة دين طقوسي محصور في المساجد والمعاهد الشرعية والتديّن الفردي، إلّا بفرض الدولة لذلك بالحديد والنار.

فإمّا أن تنتبه الدولة ورجالها لذلك مبكّرا فتمضي مع المجتمع المسلم ودعاته وتحميهم وتتنازل عن بعض المسّرات التي تعد بها القوى الإقليمية والدولية، وإمّا أن تمضي مع تلك الوعود والمسرّات وتتجاهل المضيّ مع الانتشار الدعوي وحمايته وتمكينه ممّا سيوصلها إلى مكافحة ذلك النموّ الديني المجتمعي والعمل على تشذيبه وملاحقة رموزه أو سجنهم أو اضطهادهم في ظلّ الضغوط الدولية.

هذا هو درس الدولة القومية العربية ما بعد الاستقلال الذي حمله القرن الماضي، بصرف النظر عن توجّه نخبتها، وتجاهلُه وعدم الاكتراث به من طرف النخبة الحاكمة ومن طرف القيادات الدينية والاجتماعية هو خلل كبير يؤدي إلى إعادة إنتاج منظومة الطغيان وإنْ بوجوه مختلفة!
19.04.202520:10
رؤية 2030 السعودية لا يمكن أن تكون مصدرا لإلهام أحد يحترم نفسه وأمّته وحضارته، فرغم محاولة هذه الرؤية تنويع الاقتصاد وعدم الاقتصار على النفط، لكنّها تتجاهل بشكل واضح بناء قاعدة صناعية كما تفعل الدول التي تحترم نفسها، وبعض تلك الدول تمتلك من الأموال والمقدّرات أقل بكثير مما تمتلكه السعودية، ومع ذلك تمكّنت من النهوض بقاعدة صناعية واعدة. أما السعودية، فهي تسعى الآن إلى تطوير السياحة والترفيه والاستثمارات المالية في مختلف القطاعات وزيادة ثقل الضرائب على الشعب لإيجاد بدائل عن النفط.

أين الصناعات الثقيلة وبناء قاعدة صناعية وتوطين التكنولوجيا من هذه الرؤية؟ لا يوجد..

والسبب: لا توجد لدى السعودية بنية تحتية كافية للصناعات الثقيلة، وهي تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد المنتجات الاستهلاكية من الخارج واستيراد السلاح من أمريكا وغيرها.

طيب ماذا كانت تفعل منذ أكثر من نصف قرن بالمال الغزير الذي يدرّه النفط؟

الإجابة غالبا: أنها كانت مكبّلة ومسلوبة الإرادة، فضلا عن متلازمة الاستبداد والفساد.. ومَن هذا الذي يجعل المكبّلَ مسلوبَ السيادة والإرادة نموذجًا ملهِمًا له؟!

والأزمة في الحقيقة لا تكمن في السياسيين الذين يصرّحون تصريحات خرقاء فحسب، بل تكمن أيضًا لدى شريحة من الشعوب العربية التي ترى في نماذج دول الخليج المكتنزة بالمال مع فقدانها للسيادة مثالًا يُحتذى.

والواجب على النخب أن تبثّ في الشعوب بأنّ حاجتها إلى الاستقلال والسيادة والعزّة والكرامة ليست أدنى من حاجتها إلى المال والغذاء والتنمية، بل لا تكون الثانية إلا بتحقيق الأولى، ولا تتحقق الأولى بجدارة إلا بوجود رؤية راسخة في الفطرة والضمير تنبثق عن الشريعة، فقد جربت هذه الشعوب منذ نحو مائة عام مختلف الرؤى والمشاريع النهضوية المبنية على غير الشريعة، فباءت جميعها بالفشل، ولم يكن سوى الشريعة ما يحمل أسس الاستقلال الحقيقي ورفض الاستبداد والتبعيّة والرغبة في بناء القوة التي تحمي الأمة وتحفظ دينها وكرامتها ومقدّراتها.
16.04.202511:03
كل تجارب الإسلاميين وغيرهم في الوصول إلى السلطة ومحاولة تطبيق الشريعة أو تأسيس مشاريع تمكين ونهوض في ظل النظام العالمي الجديد هي مادة خصبة للدراسة والتعلم والبناء عليها، ومع الأسف قليلا ما يحدث ذلك، حيث يشيع تجريب المجرب وتندر التجارب الواعدة التي تحافظ على غاية الشريعة مع القدرة على التعامل مع هذا النظام العالمي دون انصهار في معاييره وأنماطه.

وإذا حدث التعلّم فغالبا ما يكون مصحوبا بتكتيك إلقاء عبء الشريعة إلى أجل غير مسمى، حيث تغيب قضية الشريعة عن القيادة وتتكفل القواعد الشعبية بالتبشير بها وإلقاء عبء تنفيذها على المجتمع وحشد مسوغات تغييبها (في الآن نفسه!) أو مسوغات الانخراط في علاقات وطيدة مع الأنظمة الجاهلية المعاصرة، وغالبا ما تتمحور التسويغات حول مسألة الاستضعاف، وتستمر إلى ما بعد الاستضعاف لأن التماهي الطويل يكون قد ضرب المشروع في مقتل وباتت الهوة بينه وبين الشريعة بعيدة جدا، بعد أن يكون قد تورّط بتفاهمات دولية سياسية واقتصادية بل واجتماعية تتعارض مع حاكمية الشريعة.

والحقيقة أن أزمة التماهي مع معايير النظام الدولي ستظل إحدى أبرز الإشكاليات التي تواجه الحركات الإسلامية المعاصرة، فهي تتجاوز ضرورة مراعاة الواقع وموازين القوى فيه ولغة الدبلوماسية إلى تبني الأنماط السياسية الجاهلية المعاصرة وذوبان المشروع أو غيابه ابتداء والتحول شيئا فشيئا إلى "ترس" في النظام الدولي.
07.04.202518:31
لست مع إسقاط الأشخاص عند أول خطأ يقومون به، وخصوصا في حالة مثل ابتهال أبو سعدة، التي وقفت موقفًا تُحمد عليه وتكلّفت من أجله الكثير الكثير، ونحن نعلم شبابًا بشوارب ولحى يخشون على وظائف أقل بكثير من الوظيفة التي كانت بها في مايكروسوفت، بل يغلب على سمتها ولباسها أنها مسلمة هويّةً ومتمسّكة بالاحتشام الذي يدعو إليه الإسلام بحجابها، تحمل حمية المسلم في رفض الدخول في المظالم والإعانة عليها.

وبدون لفّ ودوران أعتقد أنّه من الخطأ أن تشارك ابتهال في كتابة مقال "رُهاب التحول الجنسي البنيوي وتوافر مقدمي خدمات الصحة النفسية المؤكِّدة للجنس" (2021)، لكنّ مجرّد مشاركتها في كتابة المقال مع آخرين لا يدلّ على تأييدها للشذوذ أو التحوّل، ومن درس في جامعات غربية يدرك تماما كيف يمكن للطالب المسلم في أوائل دراسته أن ينخرط في دراسات أو أبحاث تتناول مفاهيم لا يدرك خطورتها أو خطورة المقاربات التي تتبنّاها. والأهم أنّ الذي نبش هذا المقال الآن لم ينبشه – على الأرجح – لتحذير المسلمين من الشذوذ ومروّجيه، بل نشره لإسقاطها في اللحظة التي وقفت فيها موقف إشهاد وإنصاف.

يذكّرنا هذا بموقف المطعم بن عدي وصحبه ممّن مزّقوا صحيفة قريش، ولقد كان من الغريب أن يخرج أحد المسلمين آنذاك ليستخرج بسهولة بعض خطايا المطعم ويقول لنا: ولكن انتبهوا لا تجعلوه بطلًا فقد مارس تلك الفاحشة واعتقد بذلك الشرك! إنّ ما بلغنا عن المطعم هو وفاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لصنيعه – رغم شركه – بعد وفاته حين قال عن أسرى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتنى لتركتُهم له" (صحيح البخاري). فكيف وهي مسلمة ولها من الخير والإسلام الظاهر ما يَغلب على خطيئتها هذه؟! أتُكافأ وما زال صنيعها ضدّ المظالم والجرائم يجول الأرض بالنبش في ماضيها القريب؟!

أشعر بالإحباط من هذه العقلية التي لا تعرف مصالحها، وتحرّكها أدوات الإعلام بسهولة، وتستسهل الاتهام والإسقاط بلا تحرٍّ. ووالله نحن في عصر فيه من البلايا التي تحلّ بالمسلمين تجعلنا نستجمع قوانا بقدر الإمكان، فنعم نحارب التوجهات المنحرفة من علمانية وقومية ووطنية وليبرالية ونسوية مرتبطة بها وشذوذ في الاعتقاد والممارسة، ولكنّا لا نسارع إلى إسقاط مَن أصابه شيء من غبارها. تخيّلوا أن نتّهم كل من حمل الخطاب الوطني (وهو يخدش مفهوم الولاء الذي هو جزء لا يتجزأ من التوحيد) بالشرك أو نقذفه في خانة العلمانية ورفض الهوية الدينية؟ لكنّا لا نفعل ذلك، بل نفرّق بين العلماني الوطني الرافض للولاء الإسلامي "بوضوح"، وبين المسلم المتلبّس بشيء من غبار هذا التوجّه، فلا نقذفه إلى أحضان العلمانية بسبب ذلك الغبار، بل نزيد في البيان ونقتنص كل فرصة بل ربع فرصة لردّه إلى أحضان مفاهيمه الإسلامية الأصيلة.

من يُقبل على الحجاب كابتهال ويهتمّ لأمر المسلمين في مشارق الأرض وهو مقيم في غربها يهنأ برغد العيش وبدَخلٍ مرتفع نُحسن الظنّ به – دون تقديسه - ونحسب هذا الظاهر لنا من خيره في ميزان تقويمه، فنعطيه حقّه من الإنصاف والتقدير دون إلغاء لأخطائه. ولكنّا لا نستحضر أخطاءه في موقف شهوده للحقّ والعدل فنقذفه بها خدمةً لمن يريد إخماد قيمة صنيعه! لا يفعل ذلك سوى تلك العقليات القاصرة التي لا تعرف صالحها.

وأؤكد أخيرا أنني لا أدافع عن ابتهال، وما انخرطتْ فيه من المفاهيم الغربية الليبرالية قد يكون بحكم جهلها الذي يشاركها فيه ملايين المسلمين أو بحكم أثر البيئة التي تعيش فيها، ولكنه ليس سببا للمسارعة في استعدائها وإسقاطها.

وخلاصة ما يذهب إليه المقال الذي اتّهمها بعضهم بسببه بتأييد الشذوذ والتحوّل الجنسي هو أنّ السياسات التمييزية ضد المتحولين جنسيًّا تُقلل من توفّر مقدّمي خدمات الصحة النفسية المؤكدة للجنس، مما يفاقم التحديات النفسية لهؤلاء الشباب. وقد شاركتْ فيه مع آخرين، وتلك خطيئة أرجو أن يغفرها الله لها، وأن يكون حولها من الناصحين من يحذّرها من الانخراط في ذلك، فكل اقتراب من هذه المقاربات الليبرالية يحمل نفَس تسويغ التحوّل، وإذا كان للإسلام سياسات راشدة لمعاملة من ابتليَ بهذا الفكر وهذا الاضطراب، ليست بالضرورة عنيفة وقاسية وهمجية كما يحبّ بعض المغرضين تصويرها، فإنها لن تكون يومًا اعترافًا بحقّهم في تشويه الجسد والفطرة، ولا مؤكّدة لجنسهم الجديد الذي يتوهّمونه بضخّ الهرمونات وقتل ما خلقهم الله عليه.. بل ستكون ردًّا لأصل فطرهم بالتي هي أحسن.
05.04.202516:53
03.04.202508:17
شغوف برسوم الأنمي لا كمحاكاة للبشر الحقيقيين، بل كتعبير عن براءة الخيال الإنساني في رسم البشر، وهي مع ذلك براءة مشوبة بالقصور والأحادية، تُنمّط ملامح الجمال وتحصرها في مزاج خاص بفنان.

يُفلتر الأنمي ملامح المعاناة، ويرسم جنة أرضية ناقصة، فلا هي ملامح الكمال الفردوسية، ولا هي ملامح الحياة الابتلائية. إنها تفجير لسذاجة طفولتنا بكامل جرعتها، ولهذا نشعر بالانجذاب إليها، إلى ذلك العالم الخالي من الألم والمعاناة حتى حين يصوّر ذلك الألم والمعاناة، فكل شيء فيه جذّاب بألوان جذّابة للعين!

انظر إلى الشيخ النبهان وحفيدته رحمهما الله.. أين ارتخاء عضلات عنقها الذي يخبرنا بفقدانها للوعي ووفاتها؟ أين الدم السائل خلف أذن النبهان؟ أين الشيب الذي اشتعل في لحيته؟ أين الجرح الغائر العميق في خدّها الوردي؟ أين تفاصيل شعرها المتعرّج بعشوائية حقيقية؟ أين وجهها.. أين هي.. أين الحقيقة؟

يخدعنا الأنمي.. يخدعنا شيطان ميازاكي ومن خلفه خوارزميات الذكاء الاصطناعي حين تُخفي الحياة بكامل جرعتها الواقعية، تجمّلها وتقدّم لنا صورة من الخيال الطفولي الساذج ترضي غرورنا وطموحنا للفردوس الأرضي.. وهي فوق ذلك تتدخّل في ملامحنا، فتُعدّل أبعاد الصورة التي ترى أننا أخطأنا فيها، تقرّبنا أو تبعّدنا، تعدّل ما تراه عدم تناسق في ملامحنا، تصغّر أنوفنا وتكبّر شفاهنا وتوسّع عيوننا.. تُفقدنا حقائقنا الخارجية لتفرض علينا حقائق جنّتها الأرضية النمطية الكاذبة!

شغوف برسوم الأنمي.. ولكني ناقم عليها بقدر شغفي بها!
18.04.202515:44
ولنأخذ مثالا من السيرة ليتّضح المقصود: فالرسول صلّى الله عليه وسلّم حين هاجر إلى المدينة لم يكن في البداية متمكّنًا فيها غاية التمكين، بل نَصَره وجهاء من الأوس والخزرج، وبقي وجهاء آخرون معارضون لهذا الحكم الجديد، وكانت هناك فئات قوية محصّنة من اليهود (قريظة وخيبر وبنو قينقاع وبنو النضير) تعيش ضمن هذه الدولة الوليدة وتعاديها من الباطن وتتآمر عليها، وهناك فئات من الأعراب فيها نفاق وفيها ضعف في الإيمان، إلى جانب التحدّيات الخارجية المتمثّلة بتحالف قوى الإقليم (الأحزاب).. فكيف تصرّف عليه الصلاة والسلام؟ (والعبرة هنا بجوهر التصرّف ومنهجه لا بالتفاصيل والأحداث)، هل مضى في تقريب المنافقين من السلطة؟ بل كانت قوة دولته قائمة على هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار، بها انتصر على جميع التحدّيات. صحيح أنه هادن بعض الفئات والقبائل، وتجاهل المنافقين حينًا، وكتب صلح الحديبية، ولكنه كان يحمل منظومة ورؤية مغايرة للأوضاع القائمة حوله في القبائل، منظومة متفوقة أخذ يبنيها مع القاعدة الشعبية الراسخة التي تؤمن بها شيئا فشيئا، وأخذ يخطو نحو تطبيقها شيئا فشيئا بوضوح ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

لم يدفن هذا المسار ليمضي في مسار مهادنة القوى الداخلية والخارجية، وبناء نظام تشريعي واقتصادي واجتماعي مرتبط بالأنظمة القبلية حوله ولا يختلف عنها إلا بخصوصية المكان، مع تنصيب نفسه ملكًا وتقريب أبناء أسرته من السلطة كما تفعل القبائل.. بل أسس عليه الصلاة والسلام حكمه على هوية واضحة، وجعل الشريعة أساسا لهذا الحكم، ووضع بذور النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي من البداية، واستعان بالقاعدة الشعبية المؤمنة بهذا النظام واستشارها في كل المحطات والتحدّيات مع مراعاة الفئات المناوئة وكسب بعضها والتخلص من أخرى بسياسة حكيمة.. ولاحقا صار يراسل ملوك فارس والروم والحبشة بحقيقة رسالته يعرضها عليهم مع الفارق الكبير في ميزان القوى بينهم وبينه. أي أنه لم يُخف في أي محطة من محطات دولته حقيقة رسالته ولم يَخَف، ولم يتماهَ مع النظام القائم، ليس لأنّه نبيّ فحسب، بل لأنّه يدلّنا على الأسس والمبادئ والقيم التي ينبغي لأمّته اتّباعها حين يريدون إعادة التأسيس لأوضاع حكم راشدة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).

والذين يقولون: إذا فعلنا ذلك ثار علينا المجتمع الدولي وتلك الفئات المعادية وانهدم المشروع.. الذين يقولون ذلك يغفلون الجانب الغيبي الذي هو نصر الله الموعود المشروط باتباع دينه والتمسّك به كما دلّت أكثر من آية في كتاب الله، والتعامل بجدية مع هذا الجانب هو التحدّي الكبير الذي يواجه الحركات الإسلامية المعاصرة. والأزمة الكبرى أن كثيرا من هذه الحركات تتعامل مع الجانب الغيبي ضمن الشروط الخاطئة وفي التوقيت الخاطئ، وقد رأتْ بأم عينها كيف أن انتظار النصر وبثّه بثقة مع الإخلال بأسبابه الواقعية وشروطه الشرعية قد أدى إلى الانهيارات والهزائم المتتالية، ورأت في التاريخ والواقع المعاصر كيف أن التمسّك بشروط النصر من شريعة وولاء مع أخذ بالأسباب الواقعية يؤدي إلى تمكين الله لعباده المؤمنين.
24.03.202519:23
سعيد جدا بهذه الهبّة ضدّ المرأة العنصرية التي سخرت من القادمين حديثًا إلى دمشق للسكن فيها من محافظات أخرى كإدلب وغيرها.

لكن السؤال: هل جميع من رفض عنصريّتها سيحمل الشعور نفسه تجاه سكن من يسمونهم "الأجانب" من بلدان مسلمة أخرى في سورية، أم سيمارس عنصريّته عليهم مثلما مارست تلك المأفونة عنصريّتها عليه؟

درس العنصرية في الحقيقة لا يمحوه سوى الإيمان بالإسلام هويّة وشريعة، أما الهوية الوطنية فهي منطلق مؤقّت مشوَّه قاصر، يوهم بالوحدة والاتساع، ولكنّ حدوده تقف عند ما رسمه أعداء الأمة من سياج يفرّقون به بين المسلمين.
10.04.202514:27
وآخر أمر أود التأكيد عليه: ألّا نتبرّع باقتراح تنازلات ضخمة مُكلفة لا نعلم خطورتها ومغبّتها؛ كفتح باب الهجرة الجماعية وتسويغها متجاهلين دروس التاريخ البعيد والقريب. لا أقول إن ترامب هو الذي يحدد ما نريد: فإذا طرح التهجير نكون ضدّه لأنّه معه.. ليس هذا هو السبب فحسب، بل لأنّ ترامب لا يريد التهجير لسواد عيوننا، هو يدرك أنّ هذا في صالحه وصالح غيرنا، ومن ثمّ فلا يمكن تجاهل هذا المعطى وينبغي التعامل معه بجدّية، خصوصا مع إدراك أهمية الوجود الديمغرافي في فلسطين، لا لأسباب وطنية أيديولوجية، ولا لتمسّك بالوطن على حساب الدم وكرامة الإنسان، ولكن لأنّ البدائل في الغالب أسوأ، ولأن هجرة المجتمعات في القرن الواحد والعشرين تولّد من الأزمات والمعاناة أكثر مما تحلّ من المشكلات، أعطوني واقعًا مملوكيّا أو عثمانيّا أو حتى حبشيّا قديمًا وسأكون أول المرحّبين بخروج أهل غزة من ديارهم، ولكنّ واقعنا العربي أسود شديد الظلمة مع الأسف!

وأخيرا أقول: أهل غزة كغيرهم من البشر يخافون القصف ويفرّون من القتل ويحبّون توقّف الحرب المشتعلة فوق رؤوسهم، وأمر الخروج أو البقاء هو خيارهم في النهاية، وإنْ كانت تحكمه إرادات أخرى وخصوصا إرادة الإدارة المصرية وحسابات أخرى. وما أقوله هنا هو إلقاء للضوء على جوانب مختلفة من المسألة، حرصًا على عدم اختزالها، وتوضيحا لملابساتها، أما القرار الأول والأخير فهو لأصحاب الشأن، فهم من يحملون المعاناة ويدركون ما يصلحهم، والحديث هنا عن أهل غزة أي جميع سكانها وليس عن جهة ما حركية أو سياسية.
20.04.202521:27
عن خرافة الإسلام الشامي الوسطي المعتدل الجميل..

فلنكن صرحاء، مشكلة كثير من المسلمين مع النقاب والاختلاط ليست مشكلة إسلام "سلفي" أو "وهّابي" حديث يريد أن يفرض نفسه في مقابل إسلام "شامي" أو "أزهري" أو "زيتوني" قديم موغل في التراث له سمت معتدل.. هذه الصورة التي أعلم أن كثيرًا من المسلمين يعتقدها وهمٌ كبير وزيفٌ عريض!

المشكلة الأساسية ببساطة أننا نعيش في عصر له قيمُه العلمانية الغربية المهيمنة، خصوصا فيما يتعلّق بالمرأة، وهي تشتدّ في العقود الأخيرة وتحديدا في عصرنا الراهن، ولا مجال للمسامحة فيها، وقد غُذّيتْ بها عقول الأجيال التي هي اليوم بين الشباب والكهولة والشيخوخة في المدارس والإعلام وغيرها، حتى غدت من أبجديات تصوّرهم عن المرأة والمجتمع، ويصعب على هؤلاء المسلمين الذين رضعوا هذه الأفكار أن يتقبّلوا النماذج المتصادمة مع هذا التصوّر الحضاري الغربي العلماني الليبرالي، وهم في الوقت نفسه يحبّون الإسلام ويحبّون ثقافتهم وتاريخهم، ولهذا يحاولون السكون إلى هذا الوهم السطحي الذي يقدّم لهم حلًّا سحريًّا فيقول إنّ شيوع النقاب وتحريم الاختلاط آراء حديثة متطرّفة "وافدة"، وإنّ الإسلام التراثي الراسخ بريء من ذلك!

وأقول ابتداء: لستُ ممّن يرى وجوب النقاب، بل لدي إشكالية مع من يجعل الدعوة إليه من أولويات الدعوة في عصرنا. بل وأجد شيئًا من الغلوّ لدى بعض من يتناول مسألة الاختلاط، وأحيانًا شيئًا من نقصان الحكمة والرُّشد في كيفية تناول هذه القضية وإدارتها في المجتمعات الحديثة.

لكن هذا كلّه شيء، والزعم بأنّ النقاب وشيوعه مع تحريم الاختلاط أمر جديد غريب على المجتمع الشامي أو غيره من مجتمعاتنا العربية المسلمة شيء آخر تمامًا..

فابتداء لا يوجد شيء اسمه إسلام شامي أو أزهري أو زيتوني أو غير ذلك.. هناك إسلام واحد، وفي المسائل الفقهية المختلف حولها هناك مذاهب فقهية راسخة انحصرت في غالب العصور في أربعة مذاهب مشهورة، وهذه المذاهب غير مرتبطة بقُطر من الأقطار، ولا تتغيّر بتغيّر الأعصار، خصوصا إذا كان أحد أسباب التغيّر هو هيمنة العلمانية على بلاد المسلمين في القرنين الأخيرين.

فإذا تسامحت المؤسسات الدينية مع عصرنا العلماني هذا وسوّغت بعض الأمور وابتدعت اجتهادات جديدة فهذا لا يعني أنّ هذه الحالة المتردّية تمثّل الإسلام في بلاد المسلمين، بل على العكس تعتبر هذه انتكاسات، وما يسمّى "الإسلام الشامي" أحرى أن يسمّى "الإسلام البعثي"؛ إذ كان عداؤه لمظاهر التديّن التي ألفَتْها الشامُ على مدى قرون منذ الفتح نابعًا من هذه المرحلة البعثية العلمانية لا غير!

كما أنّ رموز المذاهب الفقهية الأربعة وأئمّتها غير مرتبطين بقُطر، فالشافعي الحجازي المولود في غزة يشيع مذهبه في الشام وماليزيا ومصر وغيرها. ومالك المدني مولدًا ووفاة بغير رحلةٍ علميّة شاع مذهبه في صعيد مصر والسودان والمغارب، وهكذا.. الأمر غير مرتبط بقُطر، بل مرتبط بحالة فقهية علمية متفاعلة تجد في البلدان من يتبنّاها فيكتب اللهُ لها الشيوع.

وبما أن الحديث الآن عن الشام، وعن الاستياء من منع الاختلاط في المسجد الأمويّ بين صفوف المتأثّرين بالواقع العلماني الذين ألفوه مذ تفتّحوا للوعي؛ فلا بد من القول بأنّ منع الاختلاط في الأصل حكم شرعي ثابت في السنّة، وإذا حصرنا الأمر في المساجد نجد هذا الحديث الواضح في صحيح البخاري عن هند بنت الحارث: "أنّ أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلّمَ قام النساء حين يقضي تسليمه ومكث يسيرا قبل أن يقوم". قال ابن شهاب: "فأرى والله أعلم أنّ مُكثه لكي ينفذ النساء، قبل أن يُدركَهُنّ من انصرف من القوم" (صحيح البخاري).

ونجد هذا الأثر الواضح في سنن أبي داود عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "لو تركنا هذا الباب للنساء"، قال نافع: "فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات"، وروي مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، غير أنّ أبا داود رجّح وَقْفه على عمر. وفي رواية عن نافع: "أنّ عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء" (سنن أبي داود).

ولن أدخل في نقاش فقهي حول الحكم المستنبط من هذه الروايات، فالقوم يرفضون مجرّد فكرة تقييد اختلاط الرجال بالنساء في المسجد، ومجرّد فكرة تخصيص مدخل للنساء وآخر للرجال، وهنا المحكّ. والواجب على هؤلاء أن يدركوا بأنّ ما يرفضونه له أصل راسخ في الدين وفي ممارسة خير القرون وكلام أئمّتهم، وسيجدون في فقه المذاهب الأربعة ما ينهى عن الاختلاط ويشتدّ في ذلك، فالأمر ليس وليد فقهٍ جديد أو متشدّدٍ كما يزعمون زورًا!
21.03.202521:11
أمّا أنا فلا يأسرني مشهد الأشلاء، بل يؤلمني استرخاص دماء المسلمين فضلا عن الحديث بلهجة غبية في مديح طرق موتهم المفجعة لكلّ سويّ، كمحاولة لنكران بشاعة الواقع، فهذا الخطاب فيه تشويه للنفوس السويّة المتّزنة!

ويؤلمني جهل كثير من المسلمين بالآثار السيئة لانتشار رائحة الموت في بلادهم، من أمراض نفسية وهجرة طوعية وغير ذلك، فمهما قيل عن الشهادة واسترخاص الدنيا، فنحن لم نولد للآخرة فحسب، بل علينا أن نجتاز اختبار الدنيا أولا، والله عز وجل لم يُهبطنا إلى الأرض كي نسارع إلى الموت بل كي نكابد الحياة وندافع الباطل، ومن أبرز مهام هذا الاختبار تحقيق الاستخلاف وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الإلهي، فإذا استُهدف الجميع للقتل لم يعد من الموحّدين من يحقق هذا الاستخلاف، فهذا المديح للموت الإجباري وطرائقه مديح غير سويّ.

قال عليه الصلاة والسلام: "يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ" (سنن أبي داود).

قد يتبادر إلى ذهن أحدهم أن يردّ على الكلام هنا بهذا الحديث، ولكنّه في الواقع موجّه إلى أولئك الذين أدّى خوفهم من الموت (ومن كل أذى بالتبع) إلى ترك مدافعة الباطل والتخلّي عن المسؤولية تجاه إيقاف عدوانه، ومثل هذا الحديث يوجّه إلى المتنفّذين الذين يمتلكون مقدّرات إيقاف الحروب القاتلة على المسلمين الأبرياء العُزّل، ولا يوجّه إلى العزّل الذين يموتون موتًا إجباريّا لا اختياريّا.

من يمدح هذا الموت الإجباري الذي يذهب ضحيّته عشرات الآلاف من النفوس الموحّدة، من يسترخصه ويحشد له مثل هذا الحديث وغيره، من يتفنّن في مديح طُرقه؛ فهو أبعد شيء عن السواء النفسي، وفي حاجة إلى إصلاح عقله وقلبه قبل مخاطبة المسلمين!

يأسرني قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. وقيمة النفس الإنسانية ليست راجعة لقيمة الدنيا، بل لما نفخ الله في هذه النفس من روحه سبحانه، وبسبب ما رصدها له من مهام الابتلاء الدنيوي العظيمة التي خلق السماوات والأرض من أجلها!
05.04.202507:42
أخطر ما فعله بنا الاستعمار الأوروبي ثم الأمريكي هو إفقاد أمتنا القدرة على الفعل أو إصابتنا بالشلل بتعبير أدقّ، وذلك بتولية الأراذل في السلطة، وتفكيك البنى الاجتماعية القادرة على القيادة، ونشر الأفكار العلمانية والانتماءات الوطنية، وإلهاء الأمة بالحياة الاستهلاكية والتفاهات والملهيات.. ما نراه الآن من عجز صارخ هو كشف حساب لهذه الأمراض المستشرية لا أكثر.
14.04.202519:10
أفكّر منذ أيّام في أولئك الذين يبخسون الكتابة، ويظنّون أن الذي يكتب لا يعمل، ويصمونه بمختلف الوصمات السيئة مثل "مجاهدي الكيبورد" و"أهل التنظير" وما شابه من أوصاف يجدونها محلّا للذمّ.

فجال في خاطري كيف أنّ الكتابة في واقعها، حين تكون رسالية وجادّة ومؤسَّسة على بحث ومتابعة، هي عمل وأيّ عملٍ. وهذا الذي يكتب عملًا أدبيًّا هادفًا أو كتابًا نقديّا أو بنائيّا أو مزيجًا من هذا وذاك فهو إنّما يجتهد ويتعب ويبذل الساعات كل يومٍ من أجل رسالة.. يحرم نفسه من الترف واللهو لغرض سام ورسالة هادفة.

وقد وقع أمامي اليوم كلام منسوب للكاتب الأديب وليد سيف عن سيناريو أدخله المستشفى! فتذكّرت أحوال الكتابة حين تشتدّ، والإرهاق الذي يصيب الإنسان أحيانًا حين يحرم نفسه الراحة والنوم في سبيل البحث والتنقيب والكتابة وتجويدها، وآلام الظَّهر الشديدة وضعف البصر المزعج واحمرار العينين وألمهما والأمراض المتنوّعة التي تؤلم البدن في سبيل العكوف على القراءة والكتابة.

الكتابة والتنظير فعل، وهو مبني على جهد سابق من قراءة وبحثٍ ومتابعة للواقع ومناقشة للناس وغير ذلك من الأعمال التي تأكل أوقات الإنسان فيما يرضي الله إذا كانت هذه الكتابة هادفة وتحمل رسالة سامية جادّة.

بل إنّ ممّا ينقص أمّتنا هو هذا التنظير والنقد والتأصيل الذي يراه بعضهم – مع الأسف – ترفًا أو عرضًا قريبًا أو ثرثرةً يقولها الإنسان في أوقات فراغه وهو عاطل عن العمل.. لا يا صديقي، مَن مارس الكتابة الجادّة وأنفق السنوات مكبًّا على المطالعة والتدقيق والبحث والتنقيب سيخبرك حالُه بقصّة أخرى هي أبعد شيء عن الثرثرة والترف الذي تظنّه وأنت تقلب صفحات مواقع التواصل فارغًا من كل هدف.. وبعض هؤلاء لا يصبر أن يقرأ منشورا من 500 كلمة لأنّه يُتعبه ثم يحدّثك بخفّة عن سهولة التنظير!

وكل عمل يمكن للمسلمين القيام به ينبغي أن يكون على بصيرة ورُشد وعلم كما أخبرنا الله في كتابه، و"العلم قبل القول والعمل" كما قال الإمام البخاري رحمه الله.
04.04.202512:44
لماذا نعجز نحن المسلمون وعددنا ملياران عن نصرة قضايانا وحماية المستضعفين منّا رغم ما نملكه من مقدرات ضخمة في العدد والمال والقوة؟

لماذا يعجز عالم عربي واسع أرضه متصلة وشعبه فتيٌّ يافع وقدراته هائلة عن إيقاف أطماع أمريكا والغرب وأدواتهم في المنطقة؟

هذا السؤال وأمثاله هو الذي يئنّ اليوم في ضمير كل مسلم وكل عربي، وسأحاول الإجابة عن جزء مركزي منه هنا، وهو أننا فرّطنا في أسس الدين الذي أنزله الله ليكون فيه ذكرُنا وعزّنا، وكل ما نعانيه اليوم هو عرَض لهذا المرض الخطير الذي حلّ بنا.

ولذلك، فمع كل الأسى والعجز الذي يلفّنا من المحيط إلى المحيط، فإنّ الواجب المنوط بالدعاة اليوم كبير جدّا، والدعاة ليسوا مجرّد المشايخ وعلماء الشريعة، بل كل مسلم له ثغره الدعوي، فجزء كبير من عجزنا هو عجز في المفاهيم والقناعات قبل كل شيء، هو تقصير عمّا يقتضيه دين الله.

كان سيد قطب رحمه الله يخبرنا في كتاب "المعالم" بماذا اختلف عنّا الجيل الأول من الصحابة ممّا جعله يصل إلى ما وصل إليه من مجد وعزّ وتمكين، فخلُص إلى أمرين: نقاء مصدر التلقّي وصحّة منهج التلقّي.

فأما المصدر فكان النبع الصافي من الوحي، وأمّا المنهج فكان "التلقّي للتنفيذ" بعبارته، أي للعمل، فلا نتناول الدين كثقافة عامة تُناقَش ولا تُفَعّل، ولا نخوض في مسائل عقائدية وكلامية لا يُبنى عليها عمل، بل غاية الدين تفعيله في الواقع.

وحين أُبصر اليوم كيف تتلاعب بنا المرجعيات المتنوّعة من أيديولوجيات ليبرالية وعلمانية ويسارية ووطنية بل وفلسفية وغيرها، وكيف ترسم لنا مفاهيمنا ومواقفنا واصطفافاتنا بعيدًا عن الشريعة أدرك إلى أي مدى يؤثّر تحديد مصدر التلقّي في تصحيح مواقف البشر وآثارها في الواقع. والأمر نفسه يقال عن منهج تلقّينا لهذا الدين، ومدى جدّيتنا في الدعوة إلى مفاهيمه الأصيلة ومواجهة المجتمعات بها ومحاولة تغيير المفاهيم الفاسدة وإحلال مفاهيم الدين مكانها، فكثيرا ما نتناول الدين "شعارات" دون أن يكون مادّة جادّة في سلوكنا على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغيره..

نعم نحن نتكلّم كثيرًا، وبعواطفنا في معظم الأوقات، والكلام لا يغيّر شيئا من واقع الصواريخ وطائرات الـ F35 وما تحفره في الأرض والإنسان وما تُسبّبه من معاناة.. لكنّ الكلام والتربية قادران على بناء الإنسان الجديد الذي نرجوه في خضمّ هذه المآسي التي تحيط بنا، علينا أن ندرك أنّ كل ما يحدث لنا لأننا لم نمض على خطّة الله لنا. علينا أن نتعلّم من قسوة حاضرنا وأن يدفعنا ذلك إلى الأوبة لشريعتنا وولائنا الذي لا يناسبنا غيرُه.

تحدّثت كثيرا في السنوات الماضية وما زلت عن "الولاء" وما يُبنى عليه من هوية إسلامية ونبذ للهويات الوطنية والقومية ومعاييرها التالفة.. وعن "الشريعة" ومرجعيّتها الضرورية الواضحة، وارتباطها الأصيل بالتوحيد، وأهمية العودة إليها مرجعيّةً أولى للقيم والشرائع والمفاهيم، وألّا نزاحمها بالمرجعيات الجاهلية المعاصرة..

كل ذلك الاهتمام لأنني أرى الخلل هنا، من تفريطنا بولائنا الإسلامي وتفريطنا بشريعتنا.. فكيف سيوفّقنا الله وينصرنا وتنهض بلادنا إذا كنّا متنكّبين طريق الله؟ كيف سينصرنا ونحن نفخر بانتماءات مخترعة جاهلية رسمها أعداؤنا لنا ونتعصّب لها، ونتحاكم إلى قوانين وضعية استوردنا بعضها ونسجنا بعضها الآخر بأهوائنا وصمتْنا عن تعطيل شرائع كثيرة منذ عقود؟!

العودة الصادقة إلى الشريعة مصدرًا للتلقّي ومنهجًا للحياة، نتّخذها معيارًا جادًّا لمفاهيمنا وسلوكيّاتنا ومواقفنا وآرائنا، كلّها لا بعضها دون بعض، وإلى الولاء الإسلامي يحدّد لنا اصطفافاتنا وانتماءنا وبوصلة تحرّكنا وعملنا.. هذه العودة حين تكون حارّة جادّة متفاعلة مع الأحداث، تخرج من قلوب ترى روحها ورواحها ووجهتَها واتّجاهها في دين الله تعالى.. هذه العودة هي الكفيلة بعودتنا خير أمّة أخرجتْ للناس، وهي الكفيلة بتحقيق وعد الله لنا:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55).. فما نحلم به كما ترون محاط بالإيمان والعمل الصالح وإفراد الله بالعبادة، هي شرط له، فكيف نرجو الاستخلاف والتمكين والأمن ونحن مقصّرون في ذلك؟!
Ko'proq funksiyalarni ochish uchun tizimga kiring.