Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Труха⚡️Україна
Труха⚡️Україна
Николаевский Ванёк
Николаевский Ванёк
Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Мир сегодня с "Юрий Подоляка"
Труха⚡️Україна
Труха⚡️Україна
Николаевский Ванёк
Николаевский Ванёк
قناة مَسَار | محمود أبو عادي avatar
قناة مَسَار | محمود أبو عادي
قناة مَسَار | محمود أبو عادي avatar
قناة مَسَار | محمود أبو عادي
09.04.202520:53
قام البروفيسور الإسباني غاسبر مايرال، ببذل جُهد علمي عظيم وتنقيب تاريخي طويل بحثًا عن الجذر الّلغوي لكلمة "المُخاطرة" Risk بالإنجليزية، ليجد أنّها ترجع إلى كلمة "الرزق" Rizq عند المسلمين والعرب.

حيث تمّ تمرير الكلمة من العربية إلى الّلاتينية في القرن الثالث عشر ومن ثمّ إلى الّلغات الرومانسية الخمس كالفرنسية risque والإسبانية riesgo والإيطالية ونحوها.

تطرح هذه الخلاصة التاريخية العجيبة، سؤالًا جوهريًا:

ما العلاقة بين (المُخاطرة) وبين مفهوم (الرزق) لدى المسلمين؟

يفسّر الباحثون هذه العلاقة، بالإشارة إلى أنّ مفهوم الرزق عند المسلمين يُؤسّس بطبعه للمُجازفة والمخاطرة والتحرّر من قيود الخوف والقلق من المستقبل.

يقوم التصوّر العقدي بأن الله عزّ وجلّ وحده الرازق، وأن مَن سواه وإن كان مُديرك بالعمل أو مسؤولك المباشر في الوظيفة أو الزبون الذي تحتاجه وتتوسّله لشراء بضاعتك، هؤلاء جميعًا في نهاية المطاف.. ليسوا سوى "أكلة رزق" من أناس مرزوقين بالأساس، رَزَقهم الرزّاق وحده الذي يرزق جميع الخلق والمخلوقات والدواب فردًا فردًا وكيانًا كيانًا.

هذا التصوّر العميق للكسب والاكتفاء المالي والسعي للرزق بذهنية منعتقة من مخاوف الإنسان البدائي، قد دفع بتُجار المسلمين إلى المُجازفة لخوض مجاهل الصحارى وما وراء البحار وأطلق العنان لحركة سعي وتجارة عالمية، ظنًّا منهم أن رزقهم لن يفوتهم بالمخاطرة.

الخسارة والربح عمليتان غير مضمونتان بطبيعة الحال، لكن الرزاق جلّ في علاه.. مضمون دائمًا وأبدًا، يتكفّل بعبيده وعباده، مؤمنهم وكافرهم، مُقصّرهم ومجتهدهم، مُسيئهم ومُحسنهم.

بهذا المعنى، لم يكن تسرّب مفردة (الرزق) إلى اللغات الأخرى استنساخ صوتي محايد، لكنه انقلاب مفاهيمي لدى البشر يرمز إلى أن السعي لكسب المال وتأمين لقمة العيش بطبعه محفوف بالمخاطر.

ما المشكلة بالمخاطرة أو الخسارة، إن كان الله سيعوّض كلّ نقص بطبيعة الحال؟

وممّ يخاف المرء إن كان متوكّلًا على الرزّاق؟ فرزقته مقسومة بالأساس لن يحرمَهُ إيّاها أحد (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت) وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّ جبريل عليه السلام نَفَثَ في رَوعه الشريف: إنَّه لا تَموت نفسٌ حتى تستكمل رزقَها!

لكن، بأي معنى يُؤمن المسلمون اليوم بمفهوم (الرزق)؟

يُربّي الناس أبناءهم على أسس تتعارض تمامًا مع مفهوم (الرزق) بصيغته التوحيدية.

تعيش في مجتمعات تسألك منذ صغر سنّك: ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟ وهي أسئلة تحصر اهتمامك وتعريفك لنفسك في "مُسمّاك الوظيفي" وكأنه غاية الحياة، ومأمولها، عن طريق إخبارك عن مدى روعة العمل لدى الشركات الكبرى: جوجل، ومايكروسوفت، وأمازون!

وهذه التنشئة الاجتماعية التي تمتدح الوظيفة لذاتها، تتحول في لاوعي الأفراد لتصورات عميقة عن أنفسهم وأهدافهم وطموحاتهم وهي طموحات ستصير لاحقًا هاجسًا عُصابيًا وأغلالًا ضدّ النزاهة الأخلاقية.

غني عن الذكر أن الوظيفة مهمة، والسعي لكسب المال مَسعى بشري أصيل ومشروع، لكن اختزال الإنسان لقيمته وغايته وحصر أثره في حياته بالعمل والوظيفة، ما هي إلا وصفة مضمونة لترويض الإنسان وتدجينه كدجاجة وبناء إنسان منزوع القيمة الأخلاقية، لا يدافع عن مظلوم، ولا ينتصر لزميل تواطأ باقي الموظفين ضدّه، خشيةً منه على خسارة مصدر رزقه.

هذا تحديدًا جوهر النقاش الذي أحاول عقده هنا، فعلاقة الإنسان مع مفهوم الرزق والمال، ليست مسألة هامشية. فالمال والطريقة التي تتصور بها طريقة كسبه، يشكّل موقفك الأخلاقي والوجودي من العالم ومن ذاتك ومن الآخرين.

في عام 2011 كتب الفيلسوف الإيطالي لزاراتو (Lazzarato) كتابًا مثيرًا بعنوان (صناعة الإنسان المَديون) يشرح فيه كيف يقوم النظام النيوليبرالي للعالم اليوم، على تحويل الناس إلى أشخاص مديونين بالضرورة، وهو ترويض تلقائي يحدّده شكل نظام العيش المعاصر، يجعلك على الدوام تركض في دوائر مفرغة من الاستدانة وسدّ الدّين، لتحقيق متطلّبات العيش المفروضة على الأفراد كمعايير أساسية للنجاح والتميّز.

ويمكن توصيف التحوّل الأساسي من الرأسمالية الكلاسيكية إلى النيوليبرالية بأنّ الإنسان لم يعد يعمل ليعيش، بل يقترض ليعيش، ثم يعمل ليُسدّد ديونه.

وهذا الوعي لا يقلب فقط منظور الإنسان عن نفسه وإنّما يقلب حتّى مفهوم الزمان لديه، ليصير الخط الزمني لحياة الفرد عبارة عن تواريخ استحقاقات الديون والأزمنة المُحدّدة لدفع الأقساط وسداد القروض.

وهي تحوّلات تؤول بالضرورة إلى اعتناق عقيدة الخلاص الفردي، وتكريس العجز وزيادة الجُبُن، وإشغال ذهن الفرد عن الاهتمام بقضايا أمّته وجماعته التي تتحوّل لشعور عميق بالذنب لا يزيد الفرد إلّا شلَلًا.

وخلاصة ما أريد قوله أنّ:

الرزق ليس مفهومًا عقديًا فحسب، لكنه منطق سلوكي يُحصّن التماسك الأخلاقي للمُسلم ويحمي فاعليته.

الرزق في أصله، ليس وعدًا بالغنى، بل انعتاقًا من الخوف الذي يجعلُكَ كائنًا وضيعًا وإنسانًا جبانًا.
30.03.202523:21
يشاركني صديق عزيز مشاهدات متكررة حول غرف مخصصة للعبادة في القارّة الأمريكية في الجامعات والمطارات والمستشفيات والتي تسمّى (مساحة متعدّدة الأديان) Multifaith Spaces وهي مساحات ذات طابع "مقدّس" مُخصّصة للصلاة، بحيث يستخدمها أشخاص من ديانات عدّة بالوقت نفسه سواء أكانوا مسلمين أو يهود أو مسيحيون أو بوذيون وغيرهم.

ومن الظواهر المعروفة في هذه المساحات، خواؤُها من معظم الممارسات الدينية المتنوعة باستثناء المسلمين، الذين هُم وبحسب تقارير إحصائية عديدة، الأكثر حضورًا وارتيادًا لهذه المساحات والأكثر عناية بها حتى بالنظافة والتأهيل مقارنة بباقي الأديان.

للمفارقة، أدّى هذا الحضور العالي للمسلمين في دور العبادة متعددة الأديان إلى إشكالات وهواجس لدى صنّاع القرار، بسبب اختلال النسبة الإحصائية بين الأديان. وبالرغم من أنها مساحة مفتوحة للجميع، إلا أن المسلمين يهيمنون بشكل تلقائي وعفوي عليها، ما يخلق فجوة بين (المفترض) و(الواقع) وعدم تكافؤ بسبب أنماط التدّين الخاصة بكلّ ديانة على حدة.

أحد التفسيرات البديهية لتحليل هذه الفروقات، هي أنّ المسلمين ملتزمون بأداء صلواتهم خمس مرّات على الأقل، تبعًا لحركة الشمس خلال اليوم ولكن الجملة الطريفة التي يستخدمها التقرير:

"لا يمكن للمسلم أن يُعيد جدولة صلواته كي يقوم بأدائها في نهاية الأسبوع، بنفس السهولة التي يُعيد بها المرء جدولة اجتماعه الأسبوعيّ لنهاية الأسبوع"

يُصرّ الإسلام على نسج علاقة فاعلة بين المسلم ويومه، كما تُصرّ الشريعة على أن تجعل أي مسلم مجتهد ولو بالحدّ الأدنى، فهو يشتبك مع يومه اشتباكًا واعيًا ومسؤولًا يتحرّى أوقات صلاته، فالعلّة الأساسية الموجبة لأداء الصلاة هي "دخول الوقت" وهذا أمر لا مِزاح فيه.

أتابع بفضول معرفي وتأمّل ذهني، الجدل الذي يتبادله المسلمون حول ثبوت رؤية هلال شوال وتمام شهر رمضان، وتباين الدّول في تحديد المواقيت.

وبعيدًا عن المنافسة في أيّنا كان على صواب أو خطأ في حسبته وفي رصده، تظلّ فكرة حضور المسلمين كشهود على أزمانهم مثيرة للاهتمام بالنسبة لي. أقصد على وجه الخصوص، هذه العلاقة الفريدة التي تنسجها الشريعة بين المسلمين وأيّامهم وشهورهم، ليكون الزمان مفهوم رمزي وحيوي، وليس مجرّد تدّفق فيزيائي محايد لا طعم له ولا لون ولا رائحة، يبتلعنا كما يبتلع البهائم.

فالصلاة لا تنفكّ عن تذكيرنا بأنّ انهماكنا في هذه العجلة الطاحنة المدعوّة "الحياة" ليست الغاية النهائية من وجودنا.

إنّ الصلوات الخمس التي يفرضها الإسلام تجعله دينًا مقاومًا لعلمنة الإنسان واستباحته وسلبه مكنونه الروحيّ. سواء أكنتَ في منزلك أو خارجه، سواء أكنتَ في إجازة عن عملك أو في صُلب انشغالاتك، وسواء أكنت تقود مركبتك أو تتوسّد فراشك، يطلب منك الإسلام قطع ما تقوم به خلال نافذة زمنية محدودة، كي يحرّرك من وحشة الزمان ويُلقي بك إلى أمان الحنّان المنّان.

ومن اللطائف في سياق انشغال الإنسان وشروده والإقبال على الله بالرغم من التقصير، ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "النبوّات" عن تفسير اسميّ الحنّان المنّان:

"الحنّان: الذي يُقبل على من أعرض عنه
والمنّان: الذي يجود بالنوال قبل السؤال"

يأتي العيد، والعيد أبرز مظاهر توقّف "الزمان العاديّ" وإعادة تعريفه في إطار كثيف شعوريًا وزخم روحانيًا. إذ تفتح الأعياد مجالًا للأفراد لإعادة ترميم هويّاتهم، خاصّة ضمن سياق جَمعي تُعاد به الذات لأحضان الجماعة في علاقة حيّة، وبالأخصّ في عصر موحش للذات، تنهشها خطابات الفردانية وترهقها أصنام التفرّد.

من الطبيعي أن يزهد إنسان الحداثة بالابتهاج بالأعياد، بوصفها احتفاء غير مبرر بما هو قديم وتقليدي وجماعي ولكن من تمام الإيمان تعظيم الشعائر والمولى عزّ وجلّ يقول:

ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب

يملك المسلمون أفقًا حضاريًا وهُم على أعتاب تحوّلات تاريخية ضخمة إن هم أحسنوا تفعيل أدواتهم ورجعوا إلى ذواتهم. ومع هذا يواجه المسلمون السنّة تحدّيًا حقيقيًا في سؤال الفاعلية، خاصّة في ظلّ أكبر إبادة جماعية يشهدها التاريخ الحديث وعلى بُعد كيلومترات من أبرز العواصم العربية والمسلمة، دون أن يحرّكوا ساكنًا، ما يطرح أسئلة حقيقية لكلّ مسلم:

• ما هي حدودك في هذا الوجود؟ متى تشعر بالإهانة حدًّا لا يغسله إلّا سعي مشرّف أو تضحية خالصة؟

• ما هي "لحظة البطولة" التي تنتظرها والتي إن حلّت ستتخلّى فيها عن كل مشاغلك الدنيوية (الإخلاد والتثاقل) وتعقد فيها تجارة رابحة مع الله؟

أشارك في قابل الأيام بإذن الله عددًا من المنشورات التي أتناول فيها معالجات فكرية لتشخيص متعدد العوامل:

غياب فاعلية الذات المسلمة: تشخيص التثاقل إلى الأرض وهدر طاقات الأمّة

أملًا في أن يخلق النقد والتحليل أفقًا للعمل والاستعمال، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.

فالّلهم فرّج عن غزّة وانصر أهلها، وفرّج عن اليمن والمظلومين والمقهورين.

وكلّ عام وأنتم بخير
04.12.202418:12
من الدراسات الشهيرة والمثيرة للجدل، دراسة نُشِرت في المجلّة الاقتصادية Economic Inquiry المرموقة، والتي درست أكثر من 3000 شخص من المتزوجين، وقد وجدت علاقة واضحة بين (سعر خاتم الزواج وتكاليف حفلة الزواج) وبين (مدّة الزواج)، وهي للأسف علاقة عكسية.

كلّما كانت تكاليف (حفلة الزواج ومعها الخاتم) مرتفعة، كلّما زادت احتمالات انفصال الزوجين خلال السنوات القليلة الأولى من زواجهما.

ثمّة تفسيرات عدّة تحاول أن تشرح هذه العلاقة المأساوية، منها أنّ التكاليف المرتفعة مرتبطة غالبًا بالدّيون أو القروض، ومن المحتمل العكس تمامًا، الأشخاص القادرين على دفع مبالغ مرتفعة قد يكونون أكثر ملاءة مالية لتحمّل تكاليف الانفصال والطلاق فيُسارعون بإجراءات الطلاق عند أوّل منعطف.

هناك تفسيرات سيكولوجية كثيرة أخرى، منها أنّ التكاليف المرتفعة في البدايات تعبير عن عقلية سطحية تحصر قيمة الزواج بالمسألة المادية وستصبح لاحقًا الآلية الوحيدة للتعبير عن الحبّ في العلاقة، ومن جهةٍ أخرى، قد تكون المبالغ المرتفعة في البداية تعبير عن سمة الاندفاعية impulsivity في الشخصية وهي سمة غير محمودة البتّة.

أيًّا كان، أسوق هذه الدراسة كي أقول أمرًا يجول في ذهني منذ فترة، وأنا أراقب بحرص النقاش الذي يدور حول الزواج والحبّ -في المجال العربي- على الأقلّ، وهو نقاش مضطرب يستند كثيرًا على (التجارب الشخصية) تجارب يُعمّمها أصحابها على غيرهم بثقة متوهّمة وبلا أي رأفة أو اعتبار بظروف الآخرين وخصوصيتهم.

ويستند جزء آخر من النقاشات إلى الصور الرومانسية التي تخلقها السينما ومنصّات التواصل الاجتماعي وعلاقات المؤثّرين وارتباطهم وانفصالهم، وهي تجارب مضلّلة لا تمتّ للواقع بصلة.

من المؤسف أن نرى زيجات عديدة تندفع نحو التحطّم والانهيار ومن ثمّ الانفصال، كان بإمكانها أن تجد لها انعتاقًا وخلاصًا في العلاج النفسي للأزواج وفيه نماذج علاجية جديدة وهامّة، ولها تراكم تجريبي غير قليل، يمكنها إصلاح العطب في كثير من المشكلات، التي قد تبدو للوهلة الأولى مشاكل غير قابلة للحلّ، مثل: الخيانة الزوجية، أو الفتور العاطفي والملل من العلاقة، مثل الاشمئزاز من الآخر أوعدم الرضا وتخيّل مسارات بديلة ممكنة للذات بعيدًا عن هذا الشخص أو ذاك.

أقول باختصار، أنّ لدى علم نفس العلاقات ما يقوله، بدءًا باختيار الشريك والوقوع بالحبّ والانجذاب، ومرورًا بديمومة العلاقة الزوجية وإحيائها، وانتهاءً بالانفصال أو أسباب انفراط العلاقات وانتهائها إمّا بشكل تدميري أو خاطئ.

ثمّة ملاحظات هامّة منها مثلًّا أنّ النساء عمومًا أكثر قدرة على إحساس وجود مشكلة جوهرية في العلاقة من الرجال، وهم أكثر دقّة بالتنبّؤ باحتمالية الانفصال قبل حدوثه.

النساء يُصبن بالتعاسة في الفترات الأولى للانفصال، فيما يستطعن التكيّف مع الانفصال والطلاق بشكل أفضل من الرجال على المدى الطويل. أمّا الرجال فهم يبدون في البداية أكثر تماسكًا لكنّهم على المدى الطويل أكثر بؤسًا وتأثّرًا بالانفصال.

مثلًا تزداد عرضة الرجال للموت في حال وفاة زوجاتهنّ أكثر من النساء في حال فقدهنّ لأزواجهم. ومن المهم أن نعي هنا أنّ تجربة الانفصال للأزواج تجربة نفسية حادّة جدًا تُكافئ في أحوالها الإكلنيكية في العلاج النفسي التجربة الشعورية لموت الآخر أو وفاته.

هناك فروقات فردية بطبيعة الحال، لكنّ الدراسات تعطينا ميلًا إحصائيًا إلى حدّ ما-في بعض الأحيان لدى الرجال أو النساء بحسب الدراسة.

أتنقّل في هذا البودكاست بين مختلف النظريات، من نظرية العصب الحائر Polyvagal Theory لأستاذ الطب النفسي في جامعة نورث كارولينا ستيفين بورجز، وبالعودة إلى نظرية التعلّق العاطفي وأهمية مراحل الطفولة في تشكيل شخصياتنا العاطفية وقراراتنا واختياراتنا عند الكبر والبلوغ.

وأتعرّض للدراسات التي تتقصّى علاقة (نمط التعلقّ العاطفي) بـ شكل التدّين ومستواه، بما فيه من دلالة وأهمية عن أنّنا حين نُربّي أطفالنا فنحن نُحدّد كذلك مدى سلامة علاقتهم بالله عزّ وجلّ، وليس فقط بالآخرين.

وأنّنا حين لا نُشبع أطفالنا بالحبّ في طفولتهم فإنّهم سيعيشون طوال عمرهم يطاردون الآخرين بحثًا عن حبّ أو اهتمام، أو كما قالت الكاتبة لورين إيدن:

حين لا نمنح أطفالنا الحبّ بمعالق من فضة، فإنّهم سيتعلّمون كيف يلعقونه من سكاكين الآخرين!

https://youtu.be/apFXSn3IkoM?si=axkvS87Vk0LiMGpg
06.09.202419:41
من تمام الإيمان وشهود أسماء الله في كونه وأقداره، أن يشهد المُؤمن ألطاف الله ليس فيما يحصل فحسب، وإنّما أن يلتقط ألطافه فيما لا يحصل وكان بإمكانه أن يحصل أيضًا، ولكنّ الله كفاه (الكافي) وجنّبه أمورًا لم يعلم عنها شيئًا.

يُنبّهنا القرآن لهذا الملمح الإيماني في سورة الكهف كي لا يقع المؤمن فريسة فخّ الاستحقاق المُتوهّم لنجاحاته.

فصاحب الجنّتين حين اغترّ بما لديه من ثراء وسعة وبركة في جنّاته، يأتي القرآن على لسان صاحبه المؤمن، كي يُنبهنا للمُمكنات الإحصائية الأخرى لحاله الذي عليه:

إنّه يقول له من الصحيح أنّك اليوم تملك هاتين الجنّتين العامرتين بثمارها وخيراتها..

لكن، كل هذه الأحوال السليمة مُعرّضة لمصائب لا يُمكن السيطرة عليها، كأن يصبها حُسبانًا (عذابًا) من السماء، وحينها لن تكون هذه الأرض غير قابلة للزراعة فحسب، بل عندها لن تكون قابلة لأن يطأها إنسان أساسًا أو أن يمشي عليها أحدٌ بقدميه (صعيدًا زلقًا).

احتمال إحصائي آخر، كان بإمكان الماء الذي يُحيط اليوم بجناتك، أن تبتلعه الأرض وأن يضيع مُشتّتًا في أجوافها وحين سيستحيل عليك إخراجه أو استخراجه أو الاستفادة منه أنت وجناتك كلّها.

هذا مَشهَد مُتكرّر في حياة الناس اليومية، خاصّة مع "لسعة" الأدمغة والأذهان التي تسبّبت بها علوم الإدارة وكُتيبات النجاح المعنونة بـ (كيف تصير ثريًا؟) و (كيف تُصبِح ناجحًا؟) وهذا الوهم المغلوط -إحصائيًا كما تشير الدراسات- من أنّ "النجاح" حتمي لمن يتّبع مجموعة خطوات محدّدة سيقولها لك خبير النجاح في كتابه.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، انتشار كلّ هذه الخطابات المأزومة التي تُغذّي هذه الهواجس اللاواعية للبشر ورغبة الإنسان اليوم لتأليه نفسه Deification، وجعل نفسه إلهًا يظنّ أنّه بتدخلاته يُمكنه أن يُحيّد جميع المتغيرات، أن يصرف عن نفسه الأذى وأن يجلب لنفسه الخير عبر خطوات حتمية.

والوجه الآخر لهذه الرغبة العُصابية لتأليه الذات: سعي الإنسان النّاجح لتعميم تجربته على الآخرين وكأنّ وصوله لما هو عليه إنّما هُو نتيجة طبيعية لعقله وتدبيره واجتهاده (إنّما أوتيته على علمٍ عندي).

تُسمّى هذه الظاهرة بـ "الغطرسة المعرفية" Epistemic Arrogance كما يصطلح عليها نسيم طالب المُختص بالإحصاء الرياضي، وهذه الغطرسة تعبير عن مبالغة البشر بقدراتهم على التنبّؤ بالأشياء التي ستحصل، بسبب ثقتهم المُفرطة بالمعرفة التي لديهم (التي هي في الغالب ضئيلة ومحدودة جدًّا إذا ما قيست بعدد المتغيرات الإحصائية التي تتحكّم بالظاهرة).

ومن الدراسات الشهيرة التي تقصّت ظاهرة (الغطرسة المعرفية) ما أجراه باحثان من جامعة هارفارد طلبوا فيها من المشاركين الإجابة على أسئلة مُحدّدة عن طريق اختيار مدى رقمي لإجاباتهم ما يُعطي مرونة وأريحية بالإجابات (مثال: "كم عدد أشجار الخشب الأحمر في متنزّه الخشب الأحمر بكاليفورنيا؟" والإجابة تكون: "أنا متأكد بنسبة 98٪ أن هناك عدد بين (س) و (ص) من الأشجار").

اكتشف الباحثون أن المشاركين، على الرغم من تأكّدهم بنسبة 98٪ من إجاباتهم، كانوا مخطئين في 45٪ من الأحيان! ومن المفارقات الطريفة أنّ المشاركين بالدراسة كانوا من حملة ماجستير إدارة الأعمال MBA من هارفارد.

بمعنى آخر، اختار المشاركون مدى ضيّق للإجابات، فأخطؤوا. كان بإمكانهم أن يزيدوا المدى كي يشمل الأرقام الصحيحة، لكنّهم وقعوا في فخّ (الغطرسة المعرفية) حين بالغوا في تقدير قدرتهم على التخمين والتنبّؤ، ولو اختاروا مدىً أوسع -معترفین بجهلهم- لحقّقوا نتائج أفضل بكثير.

من المهم أن ندرك أنّ ما تشير له الدراسة هنا، هو التفاوت الكبير بين ما نعرفه وما نظنّ أنّنا نعرفه. نحن متغطرسون لأنّنا نعتقد أنّنا نعرف أكثر مما نعرفه حقًا.

تذكّرنا هذه الدراسات بالأية الكريمة في سورة الزمر عن غطرسة الإنسان وشعوره بالاستحقاق:

ثُمّ إذا خوّلناه نعمةً منّا.. قال إنّما أوتيته على علم

بل هي فتنة.. ولكنّ أكثرهم لا يعلمون


الواقع بحسب المنطق الإحصائي المُعقّد:

مُقابل كُل شخص ناجح يُحدّثك عن نجاحه على الشاشات، ثمّة 99 شخص آخر يأكلون السردين على العشاء، كانوا قد اتّبعوا نفس الخطوات لكنّهم فشلوا تمامًا وخسروا كلّ ما لديهم.

يُعيدنا هذا المثال إلى علم النفس الإدراكي والانحياز النفسي الشهير المُسمّى "انحياز النجاة" Survivorship bias إنّ قصص النجاح تُلغي الوعي الإحصائي بأولئك الذين لم يتمكّنوا من النجاة وهُم كُثر، كما تُلغي دور التوفيق الإلهي وعناصر أخرى مثل التوقيت المناسب وتهيّؤ الظروف وهي أمور خارجة عن السيطرة تلعب الدور الأكبر في تحقيق النجاح.

كما يُذكّرنا هذا بمفهوم (المكتبة المُضادة) Antilibrary لدى أمبرتو إيكو، فالأهم من الكُتب التي قرأتها: الكُتب التي لم تقرأها، والكتب التي تعي أنّك لا تعلم عنها شيئًا.

إنّ وَعيك بحدود معرفتك وإدراكك لجهلك هو ما يجعلك إنسان واعي حقًّا وليس العكس.
27.12.202417:34
ذهب المُفكّر الهنديّ المسلم وحيد الدّين خان، إلى أنّ التعطّش الفِطريّ للعدل لدى البشر، ما هو إلّا دليل طبيعي على وجود اليوم الآخِر (يوم الفصل، اليوم الذي تُرَد فيه المظالِم لأصحابها).

تمامًا كما أنّ الظمأ إلى الماء شعور فطري يُولَد مع جميع الكائنات الحيّة دون سابقة تعلّم و دون اكتساب خارجيّ وإنّما هو شعور ذاتي نابع من الداخل.

بهذا المعنى الفلسفي، فإنّ الظمأ إلى الماء، دليل على وجود الماء، حتى وإن لم نكن قد وجدنا الماء بعد. حين تعطش الحيوانات تهيم في الصحراء بحثًا عن سائل عذب يدعى "الماء"، لا تعرفه ولا تعرف خصائصه لكنّها تعرف أنها بحاجته.

وكذلك العدل في الحياة الدنيا، لا يتحقّق دائمًا، يتعطّش له البشر، يرون بعض شواهده ويرونه غائبًا في كثير من الأحيان، ولكنهم يحسّون بوجوده المُطلَق في مكانٍ ما، ينتظرون حدوثه أو مجيئه، يتعطّشون له ويتطلّعون إليه في كل زمان وكل مكان.

فكرة عبقرية مفادها أنّ البشر دائمًا يشعرون أنّ الحكاية لم تنتهِ بعد، إذ ثمّة مظلومين ماتوا ولم يقتصّوا من ظُلّامهم، وثمّة أسرى ماتوا في أقبية السجون المُظلمة تحت الأرض ولمّا يشاهدوا مُعذّبيهم وهُم يتعذّبون ويتألّمون كما فعلوا بهم بغير وجه حق.

ثمّة صرخات لم يسمعها أحد، وحكايا من الظلم والقهر لم يعرف عنها أحد. هناك أصحاب الأخدود في سورة البروج، ماتوا حرقًا في بطن الأرض، والقرآن لا يخبرنا شيئًا عن ملكهم الظالم والاقتصاص منه في الحياة الدنيا، ولكنّ ثمّة آخرة، يحكم فيها عالم الغيب والشهادة بحكمه البليغ وعقابه الشديد.

ومن الدراسات العلمية المثيرة للغاية في حقل (علم نفس الأخلاق) والتي أجراها فريق بحثي في جامعة Yale المرموقة، والذي ترأسّه عالم النفس الشهير بول بلوم، حيث وجدت الدراسة أنّ الأطفال منذ ولادتهم، يُولَدون فطريًا منحازين لتفضيلات أخلاقية واضحة منذ عمر 3 شهور!! لقيم أخلاقية مثل العدل والرحمة.

وهناك تفاصيل لطيفة للطريقة التي جرى بها تنفيذ الدراسة عبر عرض مشاهد تمثيلية للأطفال الرضّع، يتعرّض فيها أحد المجسّمات للظلم من قبل مُجسّم آخر، ثمّ يأتي مُجسّم ثالث لاحقًا يقوم بعقاب المجسّم (الظالم) بسبب الظلم الذي أوقعه. وقد وُجد أنّ الأطفال يختارون المجسّم الذي قام بالاقتصاص من الظالم ويفضّلونه على جميع الأجسام الأخرى.

إنّ الفرح لمشاهد تحرير السجناء، والاقتصاص من المجرمين، هذا شعور فطري أصيل، يتّسق مع كلّ نفس حرّة، تعرف الظلم وتعرف بطلانه، وتعرف أنّه لا ينبغي أن يدوم، وأنّ لهذا الوجود، يوم تُوضع فيه الموازين القسط، فلا تُظلَم نفسٌ شيئًا.

أقول هذا لأنّ من الّلوثات الإدراكية التي أحلّها الخطاب الاستعماري والخطاب الغربي في العالَم، تقديس السلام على حساب المظالم، وتعظيم التسامح على حساب الحقوق، وذمّ الغضب أو القتال بالمطلق.

وأحد الفروقات الأساسية بين التصوّر الإسلامي للإنسان، وبين علم النفس الغربيّ: مفهوم (الغضب) Anger

في المنظور الغربي، الغضب دائمًا مذموم، وسيخبرك الأطبّاء النفسيون والمعالجون عن ضرورة ترويض الغضب، وضرورة إدارة الغضب Anger Management وكلّ تلك النماذج العلاجية للتخلّص من الغضب.

أمّا في التصوّر الإسلامي، فالغضب، مذموم في أحيان كثيرة (لا تغضب، ليس الشديد بالصّرعة)، ولكنّه مشروع في أحيان أخرى، إنّه شعور بشري أصيل تعترف به المنظومة الإسلامية (أتعجبون من غيرة سعد؟) والغضب لانتهاك محارم الله.

وقد اعتبر القرآن اعتبارًا سيكولوجيًا نوعيًا في مشروعية القتال حين قال (ويشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين) ومن أسماء الله عزّ وجلّ (المنتقم) ومن صفاته أنّه عزيز ذو انتقام.

والمشكلة الأساسية في الخطاب الغربي المتمركز حول (نبذ الغضب) أنّه يُغفل الفروقات السلطوية في الخلافات بين البشر، إنه يفترض أنّ أي خلاف هو خلاف أفقي يجب أن يُحلّ بالتواصل والتفاهم.

مع أنّ واقع الحال يشهد أنّ البشر يُوقعون الظلم ببعضهم من موقعيات مختلفة، هي في غالبها ظلم يقع من طرف أقوى على طرف أضعف، ومن طرف متمكّن على طرف مستضعف، ومن طرف شديد الدهاء على طرف شديد السذاجة، وهي كلّها أشكال لا تُبرّر ولا تُحلّ بالتفاهم فقط، وإنما تحتاج أولًا لإحقاق الحق وردّ المظالم لأصحابها.

وهذه بالمناسبة واحدة من الخلافات الأساسية بين (علم النفس التحرّري) و (علم النفس الغربي). ويرى باولو فريري المُعلّم والفيلسوف البرازيلي أنّ (الغضب المشروع) و (الأمل النقدي) أهم عناصر التحرر من الأوضاع القهرية.

بهذا المعنى، فإنّي كإنسان:

لديّ الحقّ في أن أكون غاضبًا

ولديّ الحقّ في التعبير عن غضبي

ويبنغي أن أوظّف هذا الغضب كأساس وباعث لإحقاق الحق والتغيير الأخلاقي

الفطرة السليمة تستاء من الظلم وتشعر بالإهانة الشخصية إذا تعرّض أيّ إنسان على وجه الأرض للظلم

وقد جاء في الحديث القدسيّ:

يا عبادي!
إنّي حرمت الظلم على نفسي
وجعلته بينكم مُحرّمًا.. فلا تظالموا!
04.12.202410:37
إنّ الذي فرض عليكَ القرآن.. لرادّك إلى مَعاد

من الأساليب العلاجية المعمول بها في العلاج النفسي وقت الأزمات والشدائد، أن تُعين مَن أصابه الجزع والخوف ممّا هو قادم أو ما سيجيء، على استحضار سابقة يقينية واضحة يعرفها في نفسه لمواجهة القادم المجهول والمُرعب.

تُسمّى هذه العملية في العلاج النفسي المعرفي بإعادة البناء الإدراكي Cognitive Restructuring ومن تطبيقاتها أن تبحث عن التجارب السابقة الناجحة واليقينية ومصادر القوّة التي امتلكها الإنسان سابقًا في حياته، واسترجاعها لتوكيد القدرة على تخطّي ما يستجدّ الآن من أزمات ومخاطر.

كان الرسول ﷺ خارجًا من مكّة، يطارده قومه، بعدما استنفذ الوسع في تبليغ قومه، وأُذن له بالهجرة.

كانت لحظة تاريخية "معقّدة" إن صحّ التعبير، تختلط فيها المشاعر والأفكار.. أن تخرج من بلادك مُطارَدًا مهمومًا، يحزنك قومك الذين تخلّوا عن فرصة عظيمة، فرصة إنقاذهم لأنفسهم في الدنيا والآخرة، يحزنك الأذى الذي يُلاحق أتباعك ولا تعرف مصيرهم، تجتاحك هواجس كثيرة ممّا سيكون، من نجاح درب الهجرة نفسه، من الوصول، ممّا بعد الوصول..

ليس معه إلّا الصدّيق، يطاردهم سُراقَة بن مالك يتقصّى أثرهم، تطلبه قريش، جادّة هذه المرّة وقد عزمت الأمر على أن تُنهي هذا المشروع مرّة واحدة وللأبد.

أنتَ الآن عزيزي القارئ، تعرف نهاية القصّة، مطمئن لنتيجة الأحداث، لكنّك لم تكن لتعرف ذلك لو كنت تعيش من داخل تلك الّلحظة التاريخية، وأنتَ أسير الحاضر، قاصر المعرفة، يُحيط بك "الغيب" من كلّ مكان، تقفز لاستنتاجات الخسارة والانهيار (كما تفعل الآن وأنت تراقب ما يجري) يبتلعك "الآن" ومجرياته وينهشك ما سيكون ومآلاته.

لو كنّا أبناء تلك اللحظة التاريخية، ببشريتنا وكامل قصورنا الإدراكي عن معرفة المستقبل وأحداثه، سنظنّ أنّها نهاية كلّ شيء، آلام مهدورة، ومعاناة لم تتوّج بنجاح الدعوة، وقناعات بعدم جدوى الدعوة المكّية بالأساس، دعوة قوم لم يؤمنوا بنهاية المطاف (حتّى تلك الّلحظة).

أتى جبريل عليه السلام الرسول ﷺ في منطقة ما بين مكّة والمدينة، هي "الجحفة" كما يذهب لذلك المفسّرون ومؤرّخو السيرة، وضمن سياق رقيق في سورة القصّص يستقرّ في نفس الرسول ﷺ تدبير اللطيف الخبير لموسى، يصنعه الربّ على عينه في قصر فرعون.

المفارقة الأساسية هنا، أنّ الله لم يصنع موسى في مكان آمن أو بعيد عن الأنظار، بل صنعه في قلب الحصن الفرعونيّ، كان موسى يتجهّز تمامًا حيث كانوا يحذرون! نعم حيث يحذرون وليس حيث ما لا يحذرون، صنعه القاهر فوق عباده أمام أعينهم، حيث يلقون بأبصارهم وأجهزتهم لإقصاء أي احتمال ولو صغير يتهدّد القصر الفرعونيّ.

القصص القرآني هنا ليس أرشيفًا لأحداث تاريخية سالفة ولا هو حكايا يستأنس بها النّاس قبل النّوم، وليست هروبًا من بؤس الواقع نحو رحابة الماضي، وإنّما كان لهذه القصص طابع إيماني خاصّ، يمنح الرسول شواهد يقينية مماثلة:

وعدنا أم موسى في لحظة يأس وأسى، وأعدنا لها ابنها كي تقرّ عينها

ووعدنا موسى وهو طريد، وأعدناه إلى مصر سيّد قومه يزلزل قصر واحدة من أكبر الحضارات في التاريخ

ثمّ قال له: (إنّ الذي فرض عليكَ القرآن) أعطاه المقدّمة الصلبة التي لا شكّ فيها.. هذا اليقينيّ الذي بين يديك، بفرائضه وأحكامه وشرائعه التي ألزمك إيّاها وقومك!

هل ترى هذا اليقيني الذي أُنزل عليك وتشرّبه صدرك ووعاه قلبك؟ هل ترى هذا الواضح، هذا البيان الفصل، هذا الكلام المُحكَم الذي تتلو آياته ويتلوها المؤمنون؟

مَن نزّله عليك، هو نفسه من سيُعيدكَ من حيث أُخرجت، هو نفسه سيعيدك وقال: رادُّك إلى (مَعاد) جعلها نكرة غير مُعرّفة، لأنّه مَعاد ليس كأيّ معاد، معاد يليق بك، معاد نصر وعزّة وتمكين (وهذا أحد الوجوه عند المفسّرين).

وكأنّه يقول له (إذا استقرّ عندك هذا) لزم أن تطمئن لذاك!

وهذه بالمناسبة من الوظائف الأساسية لقراءة تاريخ الأمم التي يقرّها القرآن: وكُلًّا نقصّ عليك من أنباء الرسل (ما نثبت به فؤادك) من تثبيت الفؤاد والاطمئنان في لحظات الخوف والجزع.

وقد ذكر الكنديّ في رسالته (الحيلة لدفع الأحزان) هذا النهج العلاجيّ:

"ومن لطيف الحيلة في ذلك تذكّر مُحزناتنا التي سلونا عنها قديمًا ومُحزنات غيرنا التي شاهدنا حزنهم عليها وسلوتهم عنها"

وهو نهج يُشبه تمامًا السلوان والمواساة التي قدّمها القرآن للرسول ﷺ في سورة الضحى.

وهذه الطريقة فعّالة لأنّ الخوف والجزع، يحصرنا بتفكير ضيّق يُسمّى بالعلاج النفسي Tunnel vision يتحوّل فيها إدراكنا كمن ينظر من خلال نفق، نحو مسار أو نهاية أحادية للأحداث وهذا يحرمنا أن نرى كل تلك المصادر والاحتمالات والتجارب المفيدة التي تحيط بنا.

فالّلهم لا تجعلنا أسرى عقولنا
فقراء في أفهامنا، جزعين لجهلنا

ولا تستدرجنا بالقول عن العمل
ولا تفتنّا باليأس بعد الأمل
26.12.202413:15
العيش في الحياة الحديثة يُشبه الركض على جهاز المشي Treadmill

في جهاز المشي، أنت تركض ولكنك لا تتقدّم للأمام

وتستمر بالركض كي تبقى مكانك

ولا ينبغي أن تتوقّف عن الركض وإلا سترتطم بالأرض!


هذا التشبيه الذكي يستخدمه الفيلسوف ميشيل سار كي يصف علاقتنا كأفراد في عالم اليوم. عالم شديد التغيّر، كثير التقلّب، يتطلّب حركة مستمرة، يستنزفك باستمرار ويُدخلك دوامة الاحتراق النفسي بين الحين والآخر.

في نهاية كل سنة، يجد الإنسان نفسه مُحاصرًا أمام كل تلك المنشورات والمقاطع التي تملأ منصات التواصل الاجتماعيّ، وتخبره عمّا ينبغي فعله في العام الجديد، وعرض كل تلك الإنجازات العظيمة التي قام بها الأصدقاء في العام الفائت.

هناك العديد من المبالغات بطبيعة الحال، فمن المفترض أنك قد كبرت ونضجت وصرت تعرف أنّ:

عدم مشاهدتك لهذه الـ 5 أفلام، لم تتسبّب في خسارتك لنصف عمرك، كما قيل لك!

وقراءتك لهذه العشر كتب لم تجعلك إنسانًا أفضل بالضرورة!

وهذه الثلاث خطوات التي وجدتها في أحد المنشورات لم تغير حياتك 180 درجة!

وقد يخبرك البعض أنّها ستغيّر حياتك 360 درجة، وهذه أكثرها مصداقية، لأنك ستعود حيث بدأت.

هذا السيل العارم من التعليمات والنصائح يجعلنا ندرك تمامًا ما الذي يعنيه المفكّرون حين يصفون الإنسان المعاصر بأنّه:

ذات مُحاصَرة
Self Under Siege

إنك تشعر في نهاية كل عام بأنك إنسان محاصر، بجميع هذه الخطابات.

مُتأخّر، ولديك الكثير لتنجزه والكثير كي تسعى له في عامك الجديد، أليس كذلك؟

يسوءك أن تفوتك جميع هذه المسلسلات التي يتحدثون عنها، ويزعجك ألا تعرف تلك الرواية التي يشير إليها الجميع. وثمة حمية غذائية جديدة دارجة، يكتب الجميع عن مدى روعتها!

تصير المشكلة مضاعفة، إن كنت من قبل تعيش حياتك تائهًا، تمشي مُكبًّا على وجهك، تحيا بلا أي هدف. حينها وعندما تقرأ أحد هذه المنشورات، تأتيك رغبة مُلحّة بالبدء والمسارعة، وتشعر كما لو أنّ عليك الركض في جميع الاتّجاهات بالوقت نفسه!

من المعروف عالميًا أنّ رأس السنة هو الشهر الذي يحصد أعلى نسبة من الاشتراكات في النوادي الرياضية. إنّها نتيجة طبيعية لخطابات عديدة، تجعلك تشعر بالتقصير حيال نفسك، وتشعر بالذنب حيال نمط حياتك الذي لم تكن تجد فيه أي مشكلة بالأساس قبل قرائتك لتلك المنشورات.

لحظة!

هل التغيير للأفضل شيء خاطئ؟

ولماذا كل هذا النقد لمنشورات حسنة النوايا، تهدف لتوجيه الناس لتحسين حياتهم؟

بالطبع التغيير للأفضل مطلوب، ونصح النّاس من المعروف الذي لا يُعدَم.

لكن.. هناك خيط رفيع يفصل بين (نُصح الناس) و "ادّعاء معرفة" ما هو أصوب لهم!

وهناك خيط رفيع بين (النصائح المثبتة علميًا) و بين "التباهي" بمنجزاتك الشخصية

وهناك خيط رفيع بين (النصيحة القابلة للتعميم) و (التجارب الشخصية الناجحة) التي لا يمكن تعميمها

وثمّة خيط رفيع بين أهمّية (التغيير للأفضل) وبين "عبادة التغيير" من أجل التغيير

هذا ليس تسخيفًا من توصيات الكتب والنصائح الجيدة أو من منشورات العام الجديد

هذا تنبيه لطيف لكي تهوّن على نفسك، أنتَ إنسان، وهناك حدود لبشريتك!

وأريد أن أشير سريعًا لبعض النقاط:

1. ما يهمّ غيرك، لا يهمّك بالضرورة

ولهذا ميّز بين ما تريده، وبين ما تمّ إيهامك بأنّكَ تريده.

2. ظروفك الجيّدة ليست متاحة لجميع النّاس

ولادتك في عائلة متماسكة، وعدم إصابة شقيقتك بالسرطان، وعدم اضطرارك للعمل لساعات طويلة، وكفاية الله لك من سؤال النّاس بسبب الفقر والحاجة، كلّ هذه معطيات لم تخترها لنفسك، وإنما هي من فضل الرحيم الكريم. لذلك لا تكن لئيمًا يفرض نجاحاته الشخصية كتعليمات على الآخرين.

3. أنتَ لستَ إلهًا: لا يمكنك أن تصير كلّ ما تريده

لا يمكنك أن تسلك كل تلك المسارات التي سار بها الآخرون، لا يمكنك أن تصير الأقوى والأسرع والأجمل والأكثر سفرًا والأكثر قراءةً والأكثر تخصصًا. اختيارك لأي مسار في هذه الحياة، يقابله ثمن تدفعه في خسارة مسارات أخرى.

4. كثرة الحركة لا تعني أنّك تحرز تقدّمًا

بفعل خطابات زائفة، شاع أن يُساء النظر للاستقرار بوصفه تخلّفًا (التوقف عن الركض) لكن من المهم أن تتعلّم فنّ (الاكتفاء) أن أحدّد ما يكفيني ويهمّني في هذه الحياة، وأن تدرك أنّ الركض والتغيّر الدائم ليسا مطلوبَين لذاتهما.

5. لا تنسَ ما هي وجهتك الرئيسية

القرآن لم يقل لك: لا تنسَ نصيبك من (الآخرة)! القرآن يقول لك أن الدار الآخرة هي الهدف الرئيسي في هذه الحياة، إذا قمتَ بتثبيت هذا الهدف، حينها لا تنسَ نصيبَك من الدنيا وليس العكس! ولذلك كل خطة تضعها لنفسك لا تضع فيها الآخرة في (المركز) ولا تحسن فيها اعتبار (التقوى) فهي خطة منحرفة وإن أعجبتك.

وأدعو لك بما دعى به الكنديّ في رسالته الحيلة لدفع الأحزان:

كفاكَ الله المُهم من أمرِ دُنياك وآخرتك
كفايةً تبلُغ بها: أكمل راحة وأطيب عَيش!
14.09.202411:04
تزخر لحظة (موت النبي ﷺ) بملامح سيكولوجية دقيقة، ادّعي أنها لم تحظَ بتحليلها النفسانيّ العميق من حيث أثرها على تصوّرات الأمّة تجاه أنفسهم وتاريخهم والآخرين.

إنّ أدنى قراءة لتاريخ الأمم والملوك، تجعلك مُتأهّبًا حسّاسًا لصورة "الموت الطبيعي" للساسّة والملوك والقادة والأنبياء، لأنّهم مستهدفون مُهدّدون يُزاحمون قوى أخرى بطبيعة الحال.

كان الرسول ﷺ، يملك أهم مشروع أُمَمي صاعد في المنطقة وكانت خطورة المشروع الجديد بالنسبة للحضارات القائمة واضحة بل ولها نبوءاتها القديمة.

وأنجز الرسول ﷺ مهمّة تثبيت الأمّة وسط تزاحم إمبراطوري شديد في محيط الجزيرة، وفي بيئة صعبة يملؤها فِتَن النفاق وكيد الأقلّيات وبُؤس البداوة داخل الجزيرة.

وبالرغم من هذا كلّه، لم يمت الرسول ﷺ مقتولًا ولا مغدورًا، كما لم يمت قبل اكتمال مشروعه، فلم يتركنا حيارى ولم يترك الدّين مبتورًا منقوصًا.

درّب أبو القاسم ﷺ صحابته على الاجتهاد، وألزمهم ممارسة الفقه، وكلّفهم قيادة السرايا، وعلّمهم الحكمة وتدبير شؤون أقوامهم، واحتساب الأموال وتقدير الزكاة، وعدم الغشّ والحرص في مراقبة الأشهر والأيام.

وأرسى منظومة الأسرة وعلاقة الزوج بزوجه وبابنته وأبيه وأمّه وأخوته، أخبركَ أن تطرق الباب على جارك ثلاثًا، أن تستأذن قبل الدخول، وأن تمشي في حاجة صديقك عنده أبلغ من أن تعتكف معتزلًا في محرابك.

اكتملت الدعوة بأركانها، وأنزلت آية التمام (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا) وقالت اليهود: لو أُنزلت علينا آية مثلها، لاتخذنا يوم نزولها عيدًا.

وشاهد الرسول ﷺ أمّته وهي تُصلّي دونه، خلف أبي بكر في لحظة سكينة اطمأنّ بها لانتقال المشروع من بعده، يرى أمّته يصلّون بنفس الطريقة التي علّمهم إيّاها وانشرح وهو يُسلّمهم handover إدارة الأمّة من بعده.

لكن ما الاسثنائي هنا؟

إذا نظرت لمعظم الأديان والطوائف القائمة في العالم، فإن علاقة المتدّينين بأديانهم غالبًا ما تتأسس على (الشعور بالذنب) Guilt تمامًا كما في التصور المسيحي والتصور الشيعي لعلاقة الفرد بإمامه ورسوله.

حين تأخذ جولة في كنائس أوروبا والمشرق، فستغرق ذهنيًا وشعوريًا بكلّ تلك اللوحات والفنون المُعبّرة عن لحظة الخذلان والمعاناة وحالة المظلومية والاضطهاد والشعور المُزمن بـ (عدم الاكتمال) للحظة تاريخية ماضية لم تسر بالاتجاه الصحيح.

هذه التعبيرات الفنية من المظلومية والدماء ولوم الذات وإثارة الشعور بالذنب في الدّين المسيحي لا تفترق عنها في شيء حالة المظلومية في المشروع الشيعي وعدد آخر من الأديان.

خلافًا لذلك كان موت الرسول ﷺ لحظة مكتملة، موت هادئ، تدريجي، موت يُحيطه الهيبة والسلام Peaceful وهذا يعني أن الرسول لم يترك أمته في حالة غضب وعجز وشعور بالذنب حيال نبيهم.

كان موت النبي حتميًا لكنّ صورته كانت طبيعية أكثر مما ينبغي، وهذا هو الفرق بين أن تترك وراءك (أمّة متصالحة مع العالم والوجود) وبين أن تترك وراءك "طائفة Cult" تحرّكها عناقيد الغضب والحقد تشعر بذنب الخذلان.

كان الصحابة نِعمَ الرجال نصروا رسولهم ووقّروه وكان أحبّ إليهم من أنفسهم وولدهم بالقول والفعل.

من هنا كانت علاقة المسلمين برسولهم آمنة Secure فنسبة أفراد الأمة إلى الرسول الكريم نسبة فخر واعتزاز وامتنان ولم تكن علاقة مأزومة يشوبها التوجّس والريبة بفعل التقصير والعجز وجلد الذات والحطّ منها.

هذا البُعد تحديدًا هو ما سيفتح لاحقًا ممكنات "العالَمية" بالنسبة للإسلام خلافًا للمشاريع الأخرى التي تملك حدودًا نظرية لقابليتها للتوسع والاستقرار والتي تسعى لاستذناب أشخاص جُدد غير مُذنبين بالأساس.

صُمّم الإسلام كي يكون مشروعًا أمّميًا مُستقرًّا حتّى في (أوقات الاستقرار وأزمنة الرخاء) مُستقلًّا بذاته، لا يحتاج عدوًّا كي يُبرّر وجوده.

خلافًا لكثير من الحركات الدينية، لم يُصمّم الإسلام كي يكون مشروعًا (انتقاميًا) يعجز عن التواجد إلا في حالة عُصابية مستمرة لتخليق العدو وممارسة الإسقاط النفسي projection عبر جلب لحظة تاريخية ماضوية وإسقاطها على الآخر ومن ثمّ محاربته وعدائه.

الملمح السيكولوجيّ الثاني المهم لـ (موت النبي)، والذي سأجيء عليه بالتفصيل في منشور آخر، فهو أنّ الإسلام قد يكون الدّين الوحيد الذي اعترف بأهلية العقل البشري عبر ختم النبوة. إذ وضع اعتبارًا لكفاءة الأتباع بغياب نبيّهم، وكأنّه يقول:

تملكون بين يديكم من المبادئ والقيم، ما يكفيكم حتى تُقام الساعة. وعالَمٌ فيه المسلمون يُقيمون الحقّ وينكرون الباطل، عالَمٌ لن يحتاج لنبيٍ آخر.

هكذا في لحظة واحدة انقطع خبر السماء، وانبعثت الأمّة واعترفت السماء بالعقل المسلم المُسدّد بالوحي كي يكون أمينًا على الناس والحق وناصرًا للمظلومين والضعفاء إلى يوم الدين.

فصلِّ الّلهم على سيدنا محمّد بن عبدالله، سيّد العُرب والعجم مُعلّم الناس الخير وآله وصحبه وسلّم
05.09.202409:53
غالبًا ما يتمّ التعاطي مع حوادث الاغتيال الإسرائيلية بوصفها عمليات تصفية فردية لغايات أمنية بحتة.

من هنا أحاول في هذا المقال أن أقدّم مُقاربة سيكولوجية اجتماعية للاغتيالات من منظور الإدارة الإسرائيلية، وهي مُقاربة تستند لعدد من المُعطيات الهامّة التي يُقدّمها كتاب (انهض واقتل أوّلًا) للصحافي الإسرائيلي رونين برغمان، هو كتاب مهم جدًّا يجيء في 800 صفحة.

المُقاربة البسيطة التي أحاول تقديمها أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية في اغتيال قادة المقاومة ورموزها، تسعى لتحقيق مُكتسبات وأبعاد مختلفة بشكلٍ متوازٍ:

- بُعد عملياتي: بإضعاف القدرات التخطيطية والحركية لحركات المقاومة بتصفية العقول المُدبِّرة.

- بُعد إعلامي: متمثّل بسياسة اليد الطويلة - بإمكانية الوصول (الوصولية الإسرائيلية) لأي أحد بأي مكان بأي وقت بلا ضوابط أو مُحدّدات.

- بُعد استخباراتي: متمثّل بالتعيين أو التخريط mapping الدقيق للرموز والعناصر المؤثّرة في حركات المقاومة ومراقبتهم استخباراتيًا من مدّة زمنية طويلة تسبق قرار التصفية.

- بُعد سيكولوجيّ: عبر إحباط النموذج المُحتَفى به لدى الشعوب (الأبطال، قادة الكتائب، الناطقون الإعلاميون أصحاب الكاريزما..).

- بُعد سُلطوي: أو ما يُسمّيه ميشيل فوكو بـ"السُّلطة التأديبية" (Disciplinary Power)، حيث تُستخدم العقوبات القاسية لترويض المجتمعات وإجبارها على الامتثال.

- بُعد سيكولوجيّ-اجتماعي: متمثّل بإحباط الشعوب ودفعهم نحو اليأس أمام كلّ بريق أمل يظهر أمامهم ممّا يُؤدّي لتكريس العجز المكتسب لدى المجتمعات المُقاوِمة.

وعلى أيّة حال، أحاول منذ بدء الحرب تقديم مُعطيات علمية جديدة للمجال العربي، لتوسعة النقاش حول ما يعرفه عدوّنا عنّا وعمّا يفعله بنا من هندسة اجتماعية مُمنهجة تستند لخبرات تراكمية في حقل علم النفس والاجتماع.

وكنت أحاول تقديم مُقاربات أدّعي أنّها لم تُعالَج بمنظور سيكولوجيّ في النطاق العربي من قبل، تحديدًا بعيدًا عن النقاش الاختزالي لملفات "الصحّة النفسية" بصيغتها المُبسّطة (ما هي الاضطرابات النفسية التي تحدث لنا بسبب الحرب؟) وإنّما النظر في ديناميات الظاهرة نفسيًا، ما يشعر به الإنسان وكيف يعتمل هذا الشعور في تغيير صورته عن ذاته، وتشويه علاقته بالمجتمع، وتأزيم أو تعميق علاقته بالله عزّ وجلّ، وبمواقفه حيال المقاومة والعدو.. كما فعلت في مادتين سابقتين بعنوان:

المعاناة النفسية لبتر الأعضاء.. أن تشاهد جسدك منقوصًا مرّة واحدة وللأبد

وكذلك الحال في مادة:

سيكولوجية التديّن.. البُنية التحتيّة للمقاومة في غزة

التي أقدّم فيها للقارئ العربي، النموذج الديناميكي المُوسّع لعالم النفس الأمريكية كريستال بارك في جامعة كونيتيكت، حول الدّين كمصنّع للمعنى المُتغيّر وفق مراحل مختلفة من حياتنا كأفراد، خلافًا للمنظور الستاتيكي للدّين بوصفه يمنح المعنى بصيغة أحادية مرّة واحدة وللأبد.. وهي محاولة نظرية جادّة للإجابة عن سؤال (ما الذي يحدث حين يفشل المعنى الأوّلي الذي يمنحنا إيّاه الدّين ونؤمن به في تفسير واقعنا؟).

عسى أن تُفرَج قريبًا على أهلنا في غزّة

والّله غالبٌ على أمره
Показано 1 - 12 із 12
Увійдіть, щоб розблокувати більше функціональності.