وقد استيقنّا نحن أن البخاري بريء من ذلك إذ صنف كتاباً كاملاً يبريء فيه نفسه من مقالة الجهمية ، فلم يحمل ذلك العقلاء على أن يتركوا كلام إمامي الهدى أبي حاتم وأبي زرعة في الرواة وأهل البدع
ولا أن يجعلوه أصلاً مقيساً عليه كما يفعل السفلة اليوم
وكذا الأمر في حال النسائي مع أحمد بن صالح المصري
التطبيق الثاني : إذا ظهر من ينقل أخباراً مكذوبة ويفتري على العباد ممن يضفي على نفسه اسم الثقة أو على أعوانه في الافتراء
فليس من العدل أن ننقض باب خبر الثقة مطلقاً ونلغيه إذ لا يترك حق لباطل ، وليس من العدل أن نسوي بين الكذاب وسيء الحفظ فضلاً عن أن نسوي بين المتثبت والكذاب فنرد أخبار الجميع
التطبيق الثالث : ربما زل عالم زلة فاستغل هذه الزلة بعض أهل البدع ، فلا يجوز لأهل السنة أن ينتصروا لزلة هذا العالم وهم يعلمون أنها زلة إذ لا يترك حق لباطل
ولا يجوز لهم أن ينهوا مطلقاً عن بيان هذه الزلة حتى لو انتشرت وتقلدها بعض الناس فإنه في هذه الحال يتعين بيان غلط الرجل مهما كان في نفسك جليلاً
إذ أن العلماء إنما ارتفعت منزلتهم بكونهم نصروا الشرع فلا يكونون مقدمين على الشرع نفسه
وهذا مقام غلط فيه كثيرون ودخلوا متاهات التعصب والابتداع وانتهى بهم الأمر إلى حال صاروا فيها مسوخاً وهم يحسبون أنهم على الهدى والاستقامة
قال ابن القيم في مدارج السالكين (2/52) :" والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ويعلي درجته ويجزيه أفضل جزائه ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل كيف وقد نفعه الله بكلامه وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناما
وهذا غاية جهد المقل في هذا الموضع فمن كان عنده فضل علم فليجد به أو فليعذر ولا يبادر إلى الإنكار فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان وهو يقول له : أحطت بما لم تحط به النمل : وليس شيخ الإسلام أعلم من نبي الله ولا المعترض دون النملة "
هذا قول ابن القيم مع تعظيمه لأبي إسماعيل الهروي وأما شيخه شيخ الإسلام فكان شديداً على الهروي مع أن الهروي كان له جهاد عظيم في الرد على أهل البدع وكتابه ذم الكلام خير شاهد على ذلك ، فقد نسبه شيخ الإسلام إلى قول الحلولية
قال شيخ الإسلام في درء التعارض (5/ 170) :" والحلول نوعان حلول مقيد وحلول مطلق فالحلول المقيد هو قول النصارى ونحوهم من غلاة الرافضة وغلاة العباد وغيرهم يقولون إنه حل في المسيح أو اتحد به وحل بعلي أو اتحد به وأنه يتحد بالعارفين حتى يصير الموحد هو الموحد ويقولون : ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد ... توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد ... توحيده إياه توحيد ... ونعت من ينعته لأحد ....
وهؤلاء الذين حكى أحمد قولهم أنهم يقولون إذا أراد الله أن يحدث أمر دخل فيه بعض خلقه فتكلم على لسانه وقد رأيت من هؤلاء غير واحد ممن خاطبني وتكلم معي في هذا المذهب وبينت له فساده"
والأبيات المذكورة للهروي
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/ 317) :" وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُشْبِهُ قَوْلَ قَائِلٍ : أَنَّ مَا قَالَهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ حَقٌّ وَهُوَ مَوْجُودٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ؛ لَكِنْ مَا يُمْكِنُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ ، وَكَلَامُ صَاحِبِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَأَمْثَالِهِ يُشِيرُ إلَى هَذَا وَتَوْحِيدُهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ :
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ * * * إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوْحِيدٍ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ نَعْتِهِ * * * عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إيَّاهُ تَوْحِيدُهُ * * * وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لِأَحَدِ"
فشيخ الإسلام ينسبه إلى موافقة قول النصارى في بعضه
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (5/230) :" فكل من قال ان الله بذاته فى كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة واجماع سلف الأمة وأئمتها مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة وهؤلاء يقولون أقوالا متناقضة يقولون انه فوق العرش ويقولون نصيب العرش منه كنصيب قلب العارف كما يذكر مثل ذلك أبو طالب وغيره ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والايمان وما يتبع ذلك فان قالوا ان العرش كذلك نقضوا قولهم أنه نفسه فوق العرش وان قالوا بحلوله بذاته فى قلوب العارفين كان هذا قولا بالحلول الخالص
وقد وقع فى ذلك طائفة من الصوفية حتى صاحب منازل السائرين فى توحيده المذكور فى آخر المنازل فى مثل هذا الحلول ولهذا كان أئمة القوم يحذرون من مثل هذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال هو افراد الحدوث عن القدم فبين أنه لابد للموحد من التمييز بين القديم الخالق والمحدث المخلوق"
فشيخ الإسلام يدينه بالحلول وفي مكان آخر أدانه بالجبر وموافقة الجهمية في ذلك