﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّاءُ رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ﴾
أيْ في ذَلِكَ المَكانِ، قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ، وقَدْ نَبَّهَهُ إلى الدُّعاءِ مُشاهَدَةُ خَوارِقِ العادَةِ مَعَ قَوْلِ مَرْيَمَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] والحِكْمَةُ ضالَّةُ المُؤْمِنِ، وأهْلُ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ يَعْتَبِرُونَ بِما يَرَوْنَ ويَسْمَعُونَ، فَلِذَلِكَ عَمَدَ إلى الدُّعاءِ بِطَلَبِ الوَلَدِ في غَيْرِ إبّانِهِ، وقَدْ كانَ في حَسْرَةٍ مِن عَدَمِ الوَلَدِ كَما حَكى اللَّهُ عَنْهُ في سُورَةِ مَرْيَمَ.
وأيْضًا فَقَدْ كانَ حِينَئِذٍ في مَكانٍ شَهِدَ فِيهِ فَيْضًا إلَهِيًّا. ولَمْ يَزَلْ أهْلُ الخَيْرِ يَتَوَخَّوْنَ الأمْكِنَةَ بِما حَدَثَ فِيها مِن خَيْرٍ، والأزْمِنَةَ الصّالِحَةَ كَذَلِكَ، وما هي إلّا كالذَّواتِ الصّالِحَةِ في أنَّها مَحالُّ تَجَلِّياتِ رِضا اللَّهِ.
وسَألَ الذُّرِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ لِأنَّها الَّتِي يُرْجى مِنها خَيْرُ الدُّنْيا والآخِرَةِ بِحُصُولِ الآثارِ الصّالِحَةِ النّافِعَةِ.
ومُشاهَدَةُ خَوارِقِ العاداتِ خَوَّلَتْ لِزَكَرِيّاءَ الدُّعاءَ بِما هو مِنَ الخَوارِقِ، أوْ مِنَ المُسْتَبْعَداتِ، لِأنَّهُ رَأى نَفْسَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْ عِنايَةِ اللَّهِ تَعالى، لا سِيَّما في زَمَنِ الفَيْضِ أوْ مَكانِهِ، فَلا يُعَدُّ دُعاؤُهُ بِذَلِكَ تَجاوُزًا لِحُدُودِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ عَلى نَحْوِ ما قَرَّرَهُ القَرافِيُّ في الفَرْقِ بَيْنَ ما يَجُوزُ مِنَ الدُّعاءِ وما لا يَجُوزُ. وسَمِيعٌ هُنا بِمَعْنى مُجِيبٍ.
(التحرير والتنوير — ابن عاشور (١٣٩٣ هـ))