انتشار مظاهر التديّن في مختلف المجالات وتحديدًا في المساجد والدروس الشرعية والحجاب ومنع الاختلاط والمبادرات المجتمعية أمر جميل يفرح له الإنسان، خصوصا في البلدان التي ضُيّق فيها على المسلمين كثيرًا وحُرموا فيها من أبسط حقوقهم.
لكنّ الانشراح لهذا الانتشار الديني المجتمعي فحسب والغفلة عن ضرورة تطوير حماية له، وضرورة توسيعه ليغدو انتشارا في مظاهر الوعي والعمل السياسيّين وفي مفاصل الحكم والقوة.. هذا الانشراح المصحوب بالغفلة قاتل. فإذا رافق تلك الغفلة المضيّ في ركاب أمريكا وأذرعها في المنطقة، وخصوصا تلك الأذرع العربية الاستبدادية، فستكون النتيجة – عاجلًا أم آجلًا – محاربة الدولة لهذا الانتشار الديني المجتمعي أو "تشذيبه".
والسبب بسيط: أنّ كل انتشار ديني حقيقي في المجتمعات المسلمة سيؤدّي بالضرورة إلى نشأة نواة حضارية مفارقة للحضارة الغربية المهيمنة، وسيحمل في ثناياه رغبات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تتفق مع قيم تلك الحضارة الدولية ومواثيقها وإلزاماتها السياسية ومصالحها الاقتصادية. هذه هي طبيعة الإسلام، شاء من شاء وأبى من أبى، لا يمكنه التقوقع بصيغة دين طقوسي محصور في المساجد والمعاهد الشرعية والتديّن الفردي، إلّا بفرض الدولة لذلك بالحديد والنار.
فإمّا أن تنتبه الدولة ورجالها لذلك مبكّرا فتمضي مع المجتمع المسلم ودعاته وتحميهم وتتنازل عن بعض المسّرات التي تعد بها القوى الإقليمية والدولية، وإمّا أن تمضي مع تلك الوعود والمسرّات وتتجاهل المضيّ مع الانتشار الدعوي وحمايته وتمكينه ممّا سيوصلها إلى مكافحة ذلك النموّ الديني المجتمعي والعمل على تشذيبه وملاحقة رموزه أو سجنهم أو اضطهادهم في ظلّ الضغوط الدولية.
هذا هو درس الدولة القومية العربية ما بعد الاستقلال الذي حمله القرن الماضي، بصرف النظر عن توجّه نخبتها، وتجاهلُه وعدم الاكتراث به من طرف النخبة الحاكمة ومن طرف القيادات الدينية والاجتماعية هو خلل كبير يؤدي إلى إعادة إنتاج منظومة الطغيان وإنْ بوجوه مختلفة!