اليوم، لا تُوارى الأجسادُ تحت التراب، بل يُدفن الزمنُ في حُفرة، إذ كيف يُدفنُ مَن كان حجمُه أكبرَ من الجغرافيا ، ووزنُه أثقلَ من الأرض؟ كيف يستوعبُ الترابُ رجلًا زلزلَ بقدميه خرائط العالم، وهزَّ بصوته عروش الطغاة؟ كيف ينحني الجبلُ أمام حفنةِ تراب، أو تنطوي الشمسُ في كفّ الظلام؟
أيها السيدُ، يا شموخَ الأرضِ حين تخضع، ويا كبرياءَ الزمنِ حين ينكسر، ويا آخرَ القلاعِ التي لم تُهدم، أيها الجبلُ الذي قاومَ العواصفَ، والبركانُ الذي قذفَ حممَ العزّةِ في وجه الغزاة، أيها البحرُ الذي لا يجفُّ، والنهرُ الذي لا يكفُّ، والريحُ التي لا تهادن، كيف أطفأوك، وأنت الشعلةُ التي تحرقُ ولا تحترق؟ كيف أسكتوك، وأنت الصوتُ الذي إذا خفتَ، صرختْ الأرضُ كلها باسمك؟ كيف احتاجوا إلى أطنانٍ من النارِ ليُسقطوا ظلَّك، ثم لم يُسقطوه؟
كنتَ صخرةً على صدرِ العدو، وسهمًا في خاصرتِه، وصاعقةً تنزلُ عليه في كل فجر، كنتَ وعدًا لا ينكثُ، ووعيدًا لا يخلفُ، كنتَ الصمتَ حين كان الصمتُ سلاحًا، والصوتَ حين كان الصوتُ قذيفة، كنتَ السرَّ الذي حارتْ فيه استخباراتُ الأرض، والخوفَ الذي استوطنَ وجوهَ الجنرالات، والرعبَ الذي لم يُفارقْ أذهانَ المستوطنين.
أيها السيد، لم تكن فردًا، بل كنتَ جيلًا من الرجال، لم تكن قائدًا، بل كنتَ أمّة، لم تكن اسمًا، بل كنتَ راية، لم تكن مجرد جسدٍ يمشي على الأرض، بل كنتَ زلزالًا يجعلُ الأرضَ تمشي خلفَه. كنتَ اليدَ التي إذا امتدّت، قطفتْ النصر، والعينَ التي إذا لمحتْ العدو، أطفأتْ أنفاسَه، والنبضَ الذي كلما دقَّ، تحركتْ الجبهاتُ بأوامرِه.
كنت الكبرياء الذي لا ينحني، والمروءة التي لا تضعف، والحكمة التي لا تُغلب، والدهاء الذي لا يُحتال عليه، والقوة التي لا تخاف، والشجاعة التي لا تتردد، والرجل الذي حوَّل الخيال إلى واقع، وقلبَ المعادلات كما تُقلب صفحات التاريخ بيد القدر.
كيف يخافُك العدوُّ ميتًا، كما كان يخافُك حيًّا؟ كيف ترتجفُ إسرائيلُ أمامَ غيابِك، كما كانت ترتعدُ من حضورِك؟ كيف تبكيك الأرض، كما كانت تبتسمُ حين تخطو فوقَها؟ كيف يصبحُ فقدُك طعنةً في قلبِ الطغاة، قبل أن يكونَ جرحًا في قلوبِ الأوفياء؟كيف ظنّوا أن اغتيالَك نهاية، وأنتَ الذي كنتَ أصلَ البداية؟
حين اغتالوك، لم يغتالوا رجلًا، بل اغتالوا ميزانَ الأرض، حين أسقطوك، لم يُسقطوا جسدًا، بل سقطتْ أوهامُهم، حين صمتَ صوتُك، لم يهدأ الصدى، بل صار أقوى، وأشدَّ، وأمضى.
الترابُ الذي يضمُّك اليوم، هو الترابُ الذي طهّرتَه، والأرضُ التي تحتضنُك اليوم، هي الأرضُ التي حميتَها، والزمانُ الذي يبكيك اليوم، هو الزمانُ الذي صنعتَه.
اليوم، يدفنُ الأوفياءُ في الأرضِ رجلًا، لكنه يولدُ في القلوبِ أسطورة، اليوم، يبكيك الرجال، لكنهم يقسمون أن يسيروا على خطاك، اليوم، تنحني الجباهُ ألمًا، لكنها تعودُ لترتفعَ أكثرَ شموخًا، اليوم، يوارى الجسد، لكنّ المعركةَ تستعر، والرايةَ تزدادُ خفَقانًا، والنارَ تتقدُ تحت رمادِ الغياب.
عزاؤنا أنك لم تذهب، بل تحوّلتَ إلى جيلٍ من المقاومين، وسطرٍ في سفرِ الجهاد، ونقشٍ على جبينِ العزة، صرتَ درسًا في كل مدرسة، وقَسَمًا في كل سلاح، ونشيدًا في كل معركة، صرتَ القَسمَ الذي يُتلَى على شفاهِ الأحرار، والعهدَ الذي لا يُنكَثُ في قلوبِ الثائرين، صرتَ المثلَ الذي لا يُدرَك، والقمّةَ التي لا تُطال، والموقفَ الذي لا يُشترَى.
ومواساتُنا أننا لم نُخلَق لِنَنوح، بل خُلقنا لنثأر،
لم نُخلَقَ لِنَذرفَ الدموع، بل خُلقنا لنُنزِلَ العدوَّ على ركبتيه، لم نُخلق لِنَنْدُبَ، بل خُلقنا لنَحمِلَ الرايةَ ونُكملَ الطريق، لم نُخلق لنُوارِي الجبال، بل خُلقنا لنُشعِلَ البراكين، ونُطلقَ الزلازل، ونُعيدَ للتاريخِ موازينَه.
وإلّا، فلا عزاءَ لنا فيك، ولا سلوى تُطيّبُ الفقد، لأنّ الرجالَ من طينتِك لا يُعوَّضون، ولا يُكرَّرون، ولا يُملأُ الفراغُ الذي يتركونَه، إلا بزلزالٍ يُحرّرُ الأرض، وإعصارٍ يقتلعُ الاحتلالَ من جذورِه، وبحرٍ من المجاهدين يعبرونَ إلى وعدِ السماء، كما عبرتَ أنتَ إلى مقامِ الشهادة، منتصرًا في الحياةِ، منتصرًا في الموت، منتصرًا في الذكرى، منتصرًا في الخلود.
فنم قرير العين ، فإنّ من كنتَ لهم قائدًا، صاروا قادة، ومن كنتَ لهم معلّمًا، صاروا أساتذةً في ساحاتِ الجهاد، ومن كنتَ لهم سندًا، صاروا جبالًا تُطاولُ السماء، ومن كنتَ لهم روحًا، صاروا أرواحًا لا تُقهر، وإن خطاك أيها السيد لم تتوقف، بل امتدّتْ طريقًا لا نهايةَ له، حتى يُكتبَ النصرُ الأخيرُ باسمك، وحتى يُدوّنَ التاريخُ أنكَ كنتَ نقطةَ الفصلِ بين زمنِ الخنوعِ وزمنِ العزة، بين زمنِ الانكسارِ وزمنِ الردع، بين زمنِ الاحتلالِ وزمنِ التحرير.
#بسام_شانع