لَمْ أَكُنْ طِفْله فِي ذَاكَ الزَّمَانِ، حَتَّى فِي طُفُولَتِي الَّتِي كَانَتْ تَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الثَّلْجُ فِي أَوَّلِ شُعَاعِ شَمْسٍ. كُنْتُ أَعِيشُ بَيْنَ حَوَافِ الذِّكْرَيَاتِ، أَمْتَشِقُ الرِّيَاحَ، وَأَتَنَقَّلُ بَيْنَ الدُّرُوبِ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا أَحَدٌ. أَرَى الْأَشْيَاءَ كَمَا لَمْ يَرَهَا غَيْرِي، وَأَحِسُّ بِأَسْرَارٍ ضَاعَ صَدَاهَا فِي الْأَزْمَانِ.
كُنْتُ فِي الْعَالَمِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْهُ. وُجُوهٌ كَانَتْ تَدُورُ حَوْلِي، بِأَصْوَاتٍ لَا تُسْمَعُ، وَأَيْدٍ تَلُوحُ فِي الْفَرَاغِ دُونَ أَنْ تَلْمِسَنِي. كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ مَلَامِحِي بَيْنَ عُيُونِهِمْ، فَأُنْكِرُهَا. وَكُلَّمَا اقْتَرَبْتُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، ابْتَعَدَتْ، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ سَرَابًا يَسْحَبُنِي إِلَى حَيْثُ لَا أَسْتَطِيعُ الْعَوْدَةَ.
لَمْ أَكُنْ طِفْله بِالْمَعْنَى الْمُعْتَادِ، بَلْ كُنْتُ أَعِي عَالَمِي كَمَا يُفْهَمُ مِنْ خِلَالِ ثَنَايَا الْأَلْغَازِ. عِشْتُ بَيْنَ ضَوْءٍ يَمْلَؤُهُ الظَّلَامُ، وَفِي صَمْتٍ تَنْبَعِثُ مِنْهُ الْأَصْدَاءُ.
آسيل صلاح